غزة: صراع يومي من أجل جرعة ماء

غزة: صراع يومي من أجل جرعة ماء
غزة: صراع يومي من أجل جرعة ماء

في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يقف أبو حسن ياسين (45 عامًا) في طابور لا ينتهي تحت شمس قاسية، يحمل خمس قوارير فارغة. قبل الحرب، كان الجفاف وتلوث المياه يهددان الحياة تدريجيًا. لكن الماء، مهما كانت ملوحته أو سوء جودته، كان يصل إلى المنازل بانتظام. أما اليوم، ومع النزوح والدمار، فقد أصبح نقص المياه النظيفة حقيقة يومية مرعبة.

يقول أبو حسن بصوت متعب: "كل يوم أصبح معركة من أجل بضع لترات من المياه، أحيانًا أقضي أربع ساعات في الطابور، ومع ذلك قد لا أتمكن من الحصول على شيء".

تأمين المياه لم يعد مجرد مهمة يومية، بل عبء يضاعف معاناة أسرته، إذ يقضي الرجل ساعات طويلة في الطوابير على أمل أن يعود بما يكفي لأطفاله وزوجته المصابة بمرض الكلى، فيما تنتظر ابنته الصغيرة، لم تتجاوز عامها الثاني، شربة ماء نظيفة؛ ما يضاعف معاناته. يسأل بحيرة: "هل يجب أن أشرب أولادي ماءً ملوثاً، أم أن يبيتوا عطشى؟".

تواجه هذه المعضلة أكثر من مليوني إنسان في غزة، فالماء لم يعد موردًا يوميًا متاحًا، بل صار رمزًا لأزمة مركبة. فالحرب الإسرائيلية المستمرة منذ نحو عامين لم تدمّر فقط بيوت السكان، بل قضت على البنية التحتية الهشة أصلاً لقطاع المياه، لتتداخل آثار تغيّر المناخ والجفاف الطويل مع الدمار الناجم عن القصف والحصار. 

هذه الظروف حوّلت حصول سكان قطاع غزة على بضع لترات من الماء إلى صراع يومي يهدد بقاء الأسر، وأعادت تعريف معنى الحياة الكريمة في واحدة من أكثر بقاع العالم اكتظاظًا وفقرًا.

في حي الصحابة وسط مدينة غزة، تعيش أم أحمد (40 عامًا) المعاناة ذاتها. لم تعد الأزمة تقتصر على البحث عن ماء صالح للشرب، بل أصبحت أيضًا صراع للحفاظ على أبسط مظاهر الحياة الكريمة والنظافة. تقول: "لقد نسينا ما هو الشعور بالاستحمام بالماء النظيف، حتى غسل وجه طفل صار معاناة مستمرة".

قبل اندّلاع النزاع، كانت المياه تصلّ إلى منزل هذه السيدة عبر الشبكة العامة بانتظام، حتى وإن كانت مالحة ورديئة الجودة. هذا التدفق المنتظم مكّن العائلة من استخدامها في الاستحمام والغسيل على الأقل، بينما لجأت الأسرة لتأمين مياه الشرب من خلال الفلاتر البسيطة أو شراء المياه المعبأة من محطات التحلية.

أما اليوم، فقد خرج خط المياه الرئيسي القادم من شركة ميكروت الإسرائيلية في المناطق الشرقية عن الخدمة بالكامل بعد أن تعرّض للقصف، ما أدى إلى توقف الإمداد الذي كان يغطي نحو 70% من احتياجات سكان مدينة غزة. تقول: "نحن محظوظون إذا وصلتنا سيارة مياه مرة كل عدة أيام، وعندما تأتي نركض جميعًا لنملأ ما يمكننا من القوارير."

في مركز إيواء غرب غزة، تقف صفاء رامي (25 عامًا) حاملة جالونًا بلاستيكيًا أصفر اللون في طابور طويل من النساء والأطفال أمام سيارة مياه. تقول: "أصبحت مهمتي اليومية هي جلب المياه للشرب والطهي". 

وتنتظر الفتاة في بعض الأحيان أكثر من ساعتين حتى يأتي دورها في التعبئة، ولكن الأمر متعب، فالجالونات ثقيلة تزن أكثر من 20 كيلوغرامًا. تضيف: "أحيانًا تنقطع المياه أسبوعًا كاملاً، وهذا يزيد من صعوبة حياتنا بشكل كبير."

المتحدث باسم بلدية مدينة غزة، المهندس عاصم النبيه، يؤكد أنّ الأضرار في قطاع المياه داخل المدينة كبيرة جدًا، إذ تعرض أكثر من 75% من آبار المياه المركزية لأضرار جسيمة، ودُمر أكثر من 120 ألف متر طولي من شبكات المياه في مدينة غزة وحدها. 

ويضيف النبيه: "هذه الأرقام لا تعكس الوضع الحالي بعد التوغلات الإسرائيلية الأخيرة التي منعت الطواقم الفنية من تقييم حجم الضرر الكامل".

أما فيما يتعلق بالصرف الصحي، فيشير إلى أن الوضع لا يقل سوءًا؛ فقد تعرّضت 100% من المحطات والمضخات لأضرار كلية أو جزئية، إضافة إلى أكثر من 200 ألف متر طولي من شبكات الصرف الصحي، و20 ألف متر طولي من شبكات مياه الأمطار. 

ويصف النبيه الوضع المأساوي للسكان مع ارتفاع درجات الحرارة قائلاً: "النزوح الجماعي لعشرات الآلاف من العائلات من مناطق شمال قطاع غزة مثل جباليا وبيت حانون إلى مناطق أخرى في مدينة غزة زاد من العبء والضغط على هذه الخدمات."

يصف مدير وحدة حماية البيئة في سلطة المياه، محمد مصلح، الوضع بالقول: "قطاع المياه هو الأخطر والأكثر تأثراً بين كل الأزمات البيئية في غزة".

وعلى مستوى قطاع غزة ككل، تكشف بيانات سلطة المياه عن حجم كارثة غير مسبوقة: قبل الحرب كان القطاع يعتمد على 311 بئرًا، دُمّر منها 162 بئرًا بشكل كامل وتضرر 93 بئرًا جزئيًا، إضافة إلى تدمير نحو 180 ألف متر طولي من شبكات المياه، وإخراج سبع خزانات مركزية عن الخدمة. 

ونتيجة لذلك، تراجعت حصة الفرد في قطاع غزة من المياه من نحو 84 لترًا يوميًا قبل الحرب إلى ما لا يتجاوز 10 لترات فقط بعد اندلاع النزاع.

يتابع مصلح: "الأضرار الواسعة النطاق تعيق حتى عملية تقييم الأزمة. لا أحد يملك بيانات دقيقة لأنّ الدراسات الميدانية متوقفة. فقدنا جلّ مصادرنا المائية، سواء آبار أو محطات تحلية؛ ما يجعل الوضع كارثة بيئية وإنسانية تتفاقم يومًا بعد يوم."

في يونيو/حزيران 2025، أصدر صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة "يونيسف" تحذيرًا شديد اللهجة. قال المتحدث باسم المنظمة، جيمس إيلدر: "الأطفال سيموتون عطشًا إذا استمر الحصار على الوقود، ونظام المياه في غزة ينهار."

لم تبدأ أزمة المياه في غزة مع الحرب الأخيرة. فعلى مدى عقدين من الزمن، ظل القطاع يعاني من نقص حاد وتلوث مزمن في مصادره المائية، لكن الدمار الواسع للبنية التحتية منذ أكتوبر 2023 جعل المشهد أكثر قسوة، إذ تحولت المياه النظيفة إلى سلعة نادرة يطاردها معظم السكان في طوابير يومية طويلة.

ومع أن الأزمة تعكس جانبًا من تحديات تغيّر المناخ العالمي وشح الموارد التي يفاقمها النزاع، إلا أن وضع غزة يكشف بوضوح بعدًا حقوقيًا لا يمكن تجاهله، فحرمان المدنيين من المياه لا يعدّ مجرد أثر جانبي للحرب، بل انتهاكًا مباشرًا للحقوق الأساسية التي تكفلها القوانين الدولية، وفي مقدمتها الحق في الماء والصحة والحياة الكريمة.

وما يبدو في غزة على أنّه صراعًا يوميًا على جرعة ماء هو في جوهره قضية عدالة وإنسانية، تتجاوز حدود غزة لتطرح سؤالاً عالميًا حول من يدفع الثمن حين تتقاطع الحروب مع الانهيار المناخي.