يتوقف عبد الرحمن عيسى (55 عامًا) أمام بسطة لبيع السكر، يمد يده بعملة ورقية مهترئة ويدفع 15 شيكلًا مقابل كيلو واحد. بعد دقائق، يمر ببائع آخر في الشارع ذاته ليكتشف أن السعر عنده لا يتجاوز 13 شيكلًا، بينما يُباع عبر التطبيقات الإلكترونية بـ 20.
يزداد حنقه وهو يعدّ ما تبقى في جيبه، إذ بصعوبة يكفيه ليكمل حاجيات أسرته. يقول عيسى إن أوضاعه المالية بعد الحرب "محطمة تمامًا"، فقد أنفق مدّخراته القليلة على تكاليف النزوح والنقل، ولم يبقَ له سوى راتب متقطع يبلغ 1500 شيكل بالكادّ يغطي الأساسيات.
منذ دخول المواد الغذائية إلى قطاع غزة بأسلوب "التقطير" – إذ تسمح إسرائيل فقط بدخول كميات لا تتجاوز 14% من الاحتياجات اليومية – وفقًا لوزارة الاقتصاد الوطني، فإنّ الأسعار تتذبذب بشكل ملحوظ، رغم أن المستوى العام يبدو ثابتًا. فيما يختلف سعر الدفع عبر التطبيق البنكي، إذ يفوق النقدي بخمسة إلى عشرة شواكل، نتيجة أزمات السيولة وعمولات السحب المرتفعة.
صباح سالم (40 عامًا)، لا تتوقف عن السير في الأسواق للسؤال عن أسعار المنتجات، فهي تعتمد على الشراء اليومي لطعام أسرتها، لذلك هي في حالة تتبُع دائم للأسعار. تتشاجر مع البائعين باستمرار، إذ تلاحظ فروقًا تصل لثلاثة شواكل في المنتج الواحد.
تقول بحسرة: "اشتريت آخر مرة أغراض مختلفة ما بين سكر ودقيق ومعلبات نقديًا، واكتشفت بعد شرائي أنني دفعت في كل منتج شيكلين أو أكثر، ليكون المجموع 45 شيكلًا، فلماذا يختلف السعر بين بائع وآخر؟". ومع نفاد السيولة لديها التي حصلت عليها بدفع عمولة وصلت إلى 32%، اضطرت للشراء عبر التطبيق البنكي من دون أن يختلف الأمر كثيرًا.
منذ مارس/آذار 2025، شددت إسرائيل إغلاق المعابر أمام شاحنات المساعدات، ما تسبب بفراغ الأسواق وارتفاع الأسعار لمستويات غير مسبوقة. الأمم المتحدة حذرت مرارًا من مجاعة وشيكة. في مايو/أيار سُمح بدخول شحنات محدودة عبر كرم أبو سالم وزيكيم، لكنها لم تغطِ سوى جزء ضئيل من الاحتياجات. وفي يوليو/تموز، بدأت عمليات “دخول منتظمة” للبضائع، لكن الكميات لم تتجاوز 40% مما هو مطلوب يوميًا لتغطية الاحتياجات الأساسية.
في 22 أغسطس/آب، أعلن نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي وقوع مجاعة فعلية في مدينة غزة ومحيطها، مع خطر امتدادها للوسط والجنوب بحلول أواخر سبتمبر. ورغم هبوط أسعار بعض السلع بعد دخول دفعات دقيق مثلًا إلى حدود 7–14 شيكل/كغم، بقيت سلع أخرى بعيدة عن متناول معظم السكان، مثل علبة الحفاضات التي بيعت بـ 170–300 شيكل، وكيلو الطماطم الذي تراوح بين 50 -130 شيكلًا.
إلى جانب المجاعة، جاء قرار الجيش الإسرائيلي بإخلاء مدينة غزة من سكانها ليزيد اختلال السوق. فقد أدت حركة النزوح إلى تضخم الطلب في مناطق الوسط والجنوب، ورفع تكاليف النقل والتأمين، وخلق فروقًا كبيرة في الأسعار من شارعٍ إلى آخر. في الوقت نفسه، بقيت الشاحنات التجارية والإنسانية عرضة للنهب أو المنع على الطرقات دون رقابة أو تأمين لدخولها؛ ما ضاعف فوضى الإمداد وفوضى الأسعار معًا.
غالية عاطف (47 عامًا) وقفت عند بسطة لبيع المعلبات وسألت البائع بحنق: "لماذا علبة التونة أغلى بشيكلين عندك مقارنة بزميلك في بداية الشارع؟". بجوارها، سيدة أخرى أبدت استيائها وقالت: "من المسؤول عن تسعيرة المنتجات في غزة؟ أين وزارة الاقتصاد؟".
أما عطاف أحمد (38 عامًا)، فترى أن اختلاف الأسعار سببه تسرب المساعدات وبيعها بطرق غير منظمة، وهو ما يفتح الباب لفوضى السعر. تقول: "كنت أقف عند منطقة الخالدي شمال غرب مدينة غزة أنتظر العائدين من معبر زيكيم لأشتري منهم المعلبات بسعرٍ أرخص من السوق، وفي اليوم التالي أجد السعر مختلفًا تمامًا".
يبرر بعض الباعة الفروقات في الأسعار باختلافها من التجار أنفسهم. يقول ضياء أحمد، بائع على بسطة مواد تموينية: "سبب اختلاف السعر بيني وبين غيري هو سعر الجملة الذي نأخذ به البضاعة. الاختلاف يكون بضع شواكل في الكاش، أما البيع الإلكتروني فأغلى بسبب العمولات المرتفعة عند سحب الأموال".
وللتعرف على دورهم في ضبط الأسعار وإجراءاتهم الرقابية، تواصلت مراسلة آخر قصة مع مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، محمد بربخ، الذي بدوره أقرّ بأنّ القائمة السعرية الرسمية غير معلنة، وأنّ الطواقم الفنيّة تعمل على تحديثها دوريًا لكن الأسعار ما زالت أعلى من المستويات المنطقية.
وبرر بربخ ذلك بضعف الكوادر البشرية لديهم، والخوف من الاستهداف الأمني، وغياب الأدوات الفنية للفحص، كلها تجعل الرقابة صعبة، خصوصًا في السلع الحساسة كالزيوت واللحوم.
المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يعزو هذه الأزمة إلى ما أسماه بـ "تشوه اقتصادي" يربك الأسواق ويمنعها من العمل بالديناميكية الطبيعية، مشيرًا إلى أن السوق المحلي بات يقوم على سعرين للسلعة الواحدة: النقدي والإلكتروني.
ويقول إنّ الدفع عبر التطبيقات يرتفع بنحو 40% بسبب عمولات "التكييش"، وهو ما يعكس أزمة السيولة العميقة بعد منع إدخال النقد وتلف الأوراق النقدية الموجودة. فيما تجاوزت تكلفة التسييل في بعض الأوقات 52%؛ ما يضاعف التضخم ويمس العدالة الاقتصادية، في وقتٍ تجاوزت فيه معدلات الفقر 90% والبطالة 83%.
المشهد السعري في غزة اليوم ليس انعكاسًا للسوق الحرة، بل نتيجة تضافر ثلاثة عوامل: سياسة معابر متقلبة تُدخل البضائع بـ "التقطير"، نزوح قسري يعيد رسم خريطة الطلب ويرفع تكاليف النقل، وأزمة سيولة حادة تولّد سعرين للسلعة الواحدة. في ظل ضعف الرقابة الحكومية وغياب آليات حماية المستهلك، تُترك الأسواق لدوامة مضاربة يومية، حيث يدفع المواطن الثمن أضعافًا، نقدًا أو عبر التطبيق، في وقت تكاد فيه أبسط الحاجات الغذائية تصبح رفاهية بعيدة المنال.
التجار في غزة