كانت رائحة دخان مواقد الحطب تختلط برطوبة الخيام في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، بينما يعلو صوت أطفال يافا الكفارنة وهم يتزاحمون حولها، فيما هي جالسة على الأرضٍ أمام خيمتها، تتحسس بيديها القماش المهترئ الذي يتسرّب منه الهواء البارد، وتمسح الغبار عن دفترٍ صغير تحمله كأنّه بقايا عالمها القديم.
قبل أشهر قليلة فقط، كانت تدير شركة إعلامية مزدهرة وفريقًا يقدّم تدريبات في التسويق والذكاء الاصطناعي. أما اليوم وتحت وقع الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، فقد خسرت حياتها المهنية بالكامل والكثير مما تملك. بين الركام والنزوح، لم يبقَ أمامها سوى خيار واحد كما تردد دائمًا: "الانهيار ليس خيار."
قبل النزاع، كانت يافا الكفارنة (39 عامًا) تمتلك سجلًا مهنيًا متشعبًا: صحفية ومدرّسة جامعية، ثم رائدة أعمال في مجال التسويق الرقمي. تخرّجت عام 2007 من كلية الصحافة، وعملت في صحف ومجلات محلية وعربية. كما درّست الصحافة في الجامعات الفلسطينية لسنوات، قبل أن تجذبها في 2010 موجة الإعلام الجديد، لتكتشف في فضاء الإنترنت فرصةً أكبر من حيث الاستقرار والمرونة، خصوصًا وهي أمّ لخمسة أطفال.
عام 2016 أسست شركتها الخاصة، وسرعان ما توسع نشاطها بفريقٍ كبير قدّم تدريبات في الإعلام والتسويق والذكاء الاصطناعي، وشارك باسم فلسطين في محافل دولية. لكن الحرب الأخيرة قلبت مسار حياتها؛ فقدت منزلها في جباليا وشركتها بالكامل، وانتقلت مع عائلتها إلى خيام النزوح في محافظات جنوب قطاع غزة.
هناك، عاشت نحو عام ونصف حياة لا تُشبه الحياة تفتقد لأدنى معايير الحياة الكريمة، وسط خيامٍ متلاصقة من قماش بالٍ يتشقق مع الريح، وأرض موحلة تتحوّل إلى مستنقع بعد كل مطر. تقول: "كنا بلا طعام ولا ملابس، حياتنا كانت لا تُطاق. لكننا لا نملك رفاهية الاستسلام".
من وسط تلك الخيام، قررت أن تبدأ من جديد. بابتسامة تحمل بذور أمل، أعادت بناء فريق صغير من ستةٍ شبان معظمهم كانوا يعملون على البسطات والأسواق. استأجرت مساحة متواضعة داخل مبنى قديم، غرفة ضيقة بأثاثٍ مُستعمل وجهازَي حاسوب بالكادّ يعملان، وخط كهرباء مؤقت واتصال بالإنترنت، وبهذه الإمكانات كانت ولادتها الجديدة.
من بين جدران متشققة وأثاث مستعمل، أخذت تتشكّل ملامح حلمٍ جديد حمل اسم المركز الفلسطيني للبرمجة والتطوير. أرادته يافا الكفارنة نافذة مفتوحة لطلاب غزة على عالم آخر؛ مكانًا صغيرًا يعلّم البرمجة والعمل الحر والتسويق الرقمي، ويصلهم بفرص تتجاوز أسوار الحصار، ليغدو شباب الخيام طاقات مضيئة تحمل حلمًا أكبر من واقعهم الضيق.
انطلقت هذه المبادرة في وقت تعرّض فيه النظام التعليمي الرسمي في غزة لأضرار جسيمة: أكثر من 650,000 طالب بلا تعليم و90% من المدارس توقّفت عن العمل. خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقت في يناير الماضي فقط، استُحدثت نحو 600 مساحة تعليمية مؤقتة لخدمة حوالي 173,000 طالب، لكن نصفها أُغلق لاحقًا بعد عودة القصف.
في ظلّ هذا، مكّن الإنترنت عبر بطاقات eSIM الدولية نحو 200,000 شخص من الوصول إلى الفضاء الرقمي، مما وفّر متنفسًا أساسيًا لمبادرات التعلم عن بُعد مثل "المركز الفلسطيني للبرمجة والتطوير".
في وقت قصير، حصل المركز على تقييمات مميزة، وبرز طلابه في مشاريع عملية قيمة، حتى أن بعض الموظفين الحاليين كانوا بالأمس من خرّيجيه.
لكن النجاح لم يلغِ الصعوبات. تكاليف الكهرباء والإنترنت وحدها تصل إلى 1200 شيكل أسبوعيًا، وهو رقم يجعل الاستمرار أقرب إلى "انتحار"، كما تقول الكفارنة، لكنها تردف: "توقفنا أيضًا يعني انتحار، لأننا نحمل مسؤولية جيل كامل."
في موازاة ذلك، تتحمل مسؤولية إعالة خمسة أطفال، بينهم رضيعة تحتاج إلى الحليب والحفاضات، في وقتٍ تعجز فيه عن توفير الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة.
تستعيد مشاهد قاسية من تجربتها في النزوح، إذ كانت تخبز وتطبخ على نار الحطب فوق سطحٍ مُتصدع مغطى بالغبار، بينما تتناثر حولها الأواني الصدئة ويصعب تنظيفها". كنت أواجه ذلك وحدي بالكامل. التجربة كانت قاسية، لكني كنت مصممة أن أحمي أولادي وأستمر."
اليوم، ورغم استمرار تنقلها بين محل إقامتها وسط خان يونس والمواصي غربًا، ما زالت متمسكة بإبقاء المركز حيًا بجهود فردية ودعم محدود من الخارج. وتقول إنّ أكثر ما يشجعها هو رؤية طلابها وقد تحولوا إلى قصص نجاح تُمثل بلادنا فلسطين في فضاءات جديدة، يحملون معهم شهادات متواضعة لكنهم يتركون أثرًا يتجاوز حدود المخيمات.
على نطاق أوسع، تكشف تجربة الكفارنة عن خسائرٍ جسيمة لحقت بالنساء صاحبات المشاريع الصغيرة في الحرب. في هذا السياق، يعمل مركز شؤون المرأة على تنفيذ سلسلة تدخلات لدعمهن وتمكينهن من استعادة أعمالهن.
تقول دعاء أبو جياب، منسقة مشروع في المركز، إن الفريق يتابع أوضاع النساء المتضررات عبر شبكات اتصال مجتمعية وزيارات ميدانية ومقابلات فردية، مستخدمًا استمارات تقييم دورية لتوثيق حجم الخسائر بدقة.
وتضيف أنّ التدخلات شملت محاور متعددة، منها منح نقدية عاجلة لمساعدة الأسر بعد فقدان مصدر الدخل، قروض ميسرة ومنح صغيرة لإعادة تشغيل المشاريع أو تأسيس بدائل، وتزويد بعض النساء بمواد وأدوات لإعادة تأهيل أعمالهن.
كما يشمل الدعم برامج تدريب على إدارة المشاريع والتسويق الرقمي والمهارات الإلكترونية، إضافة إلى جلسات دعم نفسي واجتماعي لتعزيز الصمود، ومبادرات مجتمعية تتيح للنساء أدوارًا قيادية وتوسيع شبكات التضامن النسوي.
تؤكد أبو جياب أن الهدف يتجاوز الإغاثة الفورية، إذ يسعى إلى إعادة بناء قدرات النساء وضمان مشاركتهن الاقتصادية والمجتمعية، حتى يظلّ دورهن في إعالة أسرهن والمساهمة في الاقتصاد المحلي قائمًا رغم قسوة الحرب.
وفي كل ما مرّت به، تختصر يافا الكفارنة حكايتها بجملة واحدة ترددها بلا توقف: "الانهيار ليس خيار."
الفلسطينية يافا الكفارنة