لازال الفارس رمزي عبد العال، واقعا تحت تأثير الصدمة، نتيجة فقدانه خيوله خلال الحرب على قطاع غزة.
يستعرض رمزي صوراً لخيوله وهي تقفز الحواجز داخل أحد نوادي الخيل في غزة. يتوقف فجأة كأنما يستعد لاستعراض الصدمة، ثم يظهر عبر شاشة هاتفه صوراً لخيوله النافقة مطروحة على الأرض، غارقة في دمائها.
لقد قتلت خيول عبد العال، فيما أن بعضها مفقود لا يعرف مصيره. يجلس الرجل على كرسي بلاستيكي يتأمل الصور بحزن ويأسف لما آل إليه مصير الخيول التي رافقته عشر سنوات، ثم يقول بصوتٍ خافت: "أتمنى أن أعرف مصير خيولي الباقية".
عبد العال، الذي كرّس نصف حياته للتدريب في نادي الفروسية، فقَدَ 17 حصانًا كان يملكها في نادي الفاروق للفروسية شمال غزة. بعضها قُتل في قصفٍ إسرائيلي، والبقية لا يعرف مصيرها، فيما يُقدِّر أن خسارته المالية وحدها وصلت إلى 200 ألف دولار، لكنه يؤكد أن ما ضاع لا يُقاس بالمال؛ إذ خسر الحلم والرسالة والهوية التي عاش من أجلها، بعدما فقد الخيول التي كانت تمثل حياته اليومية وامتدادًا لذاته، لا مجرد تجارة أو رأس مال.
وضم نادي الفاروق للفروسية المقام على مساحة ثماني دونمات في منطقة السودانية شمالي قطاع غزة، خيولاً مستوردة بينها خيل بلجيكي أصيل. وتنوّعت الأنواع بين خيول للقفز والركض، فشكّلت معًا جزءًا من مشهد رياضي نادر في القطاع، قبل أن يتلاشى كل ذلك تحت الركام.
لكن عبد العال لم يكن الخاسر الوحيد؛ فقد تكبد مربّو الخيول الآخرون خسائر باهظة، إذ تشير تقديرات الاتحاد الفلسطيني للفروسية إلى أنّ القطاع كان يضم قبل اندّلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023 نحو 200 حصان موزعة على 17 ناديًا واسطبلًا، جميعها دُمّرت بالكامل. ومن بين هذه المرافق الاتحاد الفلسطيني للفروسية ومراكز معروفة مثل الملكي، الأصدقاء، الفارس، القرا، والرفاتي لسباقات السرعة، إضافة إلى جمعية السلام للخيول العربية.
ومع تدمير هذه المرافق، تراجعت أعداد الخيول بشكل حادٍ بفعل الجوع والأمراض والقصف وفقدان الأثر. ومع انقطاع الأعلاف، اضطر مربّون إلى إطعام خيولهم العدس أو البرغل أو الفول المجروش كبدائل، وهي أطعمة لا تتناسب وطبيعتها مما تسببت في انتشار الأمراض ونفوق أعداد إضافية.
عبد الشويخ، مدرب خيول منذ عشرين عاماً، عاش التجربة من زاوية مختلفة. فقد كان يملك خيولًا استوردها من داخل الأراضي المحتلة وأوروبا. يقول: "كان لدي حصانًا هولنديًا جلبته من بلاده مع شهادة دولية مقابل 140 ألف شيكل".
عمله كان يجمع بين التجارة والتدريب، لذلك لم يكن يحتفظ بعدد ثابت من الخيول. لكنه أشار إلى أن الخسائر في الثروة الحيوانية نفسها كارثية، إذ كان في غزة قبل نشوب النزاع أكثر من 1000 خيل موزعة بين الأندية والإسطبلات والمالكين الأفراد، لكن نصفها تقريبًا فُقد بفعل القصف والجوع والمرض وفقدان الآثر.
ويُقدِّر الشويخ أن خسائر قطاع غزة المالية في الخيول وحدها، تصل إلى ثلاثة ملايين دولار، معظمها لخيول مستوردة كانت تُعتبر من النوادر في القطاع.
يشير الشويخ إلى أنّ كل الأندية تقريبًا لم تعد موجودة في ظلّ الوضع الراهن، أما الخيول القليلة التي بقيت على قيد الحياة فتعاني سوء التغذية وانعدام الدواء. موضحًا أنّ تكلفة إطعام 12 حصانًا في منطقة المواصي بخان يونس جنوب القطاع تصلّ إلى 7000 شيكل شهريًا.
يضيف: "نطعمها العدس والفول المجروش حتى لا تموت، لكن هذه الأطعمة قاتلة لها". بالإضافة إلى ذلك، فإنّ عدم توفر أي دواء بيطري أو حتى مرهم للجروح فاقم من معاناة الخيول وأدّى إلى نفوق أعدادٍ أخرى.
في الاتحاد الفلسطيني للفروسية، يقول عبد العزيز أبو شريعة، رئيس اللجنة الفنية، إنّهم بذلوا جهودًا لحماية ما تبقى من الخيول على قيد الحياة. يردف: "منذ نوفمبر 2023 حاولنا إجلاء الخيول والتواصل مع الاتحاد الدولي للفروسية ومنظمات حقوق الحيوان. لكن دون جدوى، وحصلنا على موافقات لإدخال طعام وأدوية، ومع ذلك توقفت على الحواجز ولم تدخل غزة".
وأوضح أبو شريعة أن الاتحاد قدّم بعض المساعدات المحدودة للعاملين في الأندية، وخصّص دعمًا ماليًا لعائلات الفرسان الشهداء وعدد من الجرحى، لكنه يُقرّ بأن هذه الجهود لم تُخفف من حجم الخسائر.
ويؤكد أبو شريعة أن جيش الاحتلال استولى على 12 خيلًا من خيول القفز الدولية، معروفة بأسمائها وجوازات سفرها، واقتادها إلى داخل إسرائيل من دون أن يُعرف مصيرها حتى الآن.
قبل الأحداث الجارية، كانت رياضة الفروسية في غزة تسير بخطوات بطيئة لكنها ثابتة؛ إذ كان الفرسان يشاركون في مسابقات داخلية مع الضفة الغربية، رغم أن الاحتلال نادرًا ما كان يسمح بسفر أكثر من أربعة أو خمسة منهم، معظمهم من الأطفال. أما اليوم، فقد توقفت تلك الخطوات تمامًا، ويحاول الاتحاد الفلسطيني للفروسية إبقاء هذه الرياضة حيّة عبر التعاون مع الاتحاد المصري، حيث يُدرَّب بعض الفرسان النازحين في معسكرات خارج غزة، بالتوازي مع مساعٍ متواصلة لإدخال الأدوية والأعلاف.
يصف الأطباء البيطريون الوضع بأنه كارثي بالنسبة للخيول. ويشير الطبيب معتصم قدورة إلى أن أبرز الأمراض المنتشرة هي المغص الناتج عن الغذاء غير الملائم، قائلًا: "البدائل الحالية ضارة وتسبب اضطرابات معوية حادة، وفي كثير من الأحيان إسهالًا قاتلًا".
ويضيف الطبيب قدورة أن منع إدخال الأدوية والتحصينات البيطرية فاقم الأزمة، فلا تتوفر علاجات للجروح أو حتى المهدئات التي تحتاجها الخيول عند تعرضها لهياج بسبب القصف.
ويتابع: "الخيول لا تعاني من سوء التغذية فقط، بل من الصدمات النفسية أيضًا؛ فقدانها للمربي أو الانتقال القسري إلى أماكن جديدة جعل بعضها يدخل في حالات خوف وهياج يصعب السيطرة عليها".
قانونيًا، يرى المحامي يحيى محارب أنّ ما جرى من اعتداءات خلال الحرب لا يطال البشر وحدهم. يقول: "تدمير الثروة الحيوانية وانعدام مقومات بقائها خرق للمواثيق الدولية. المادة 55 من البروتوكول الإضافي الأول تحظر استخدام وسائل تضر بالبيئة، ويُفهم منها وجوب حماية الحيوانات أيضًا".
ويُضيف محارب أنّ هذه الانتهاكات تندرج في إطار العقوبات الجماعية المحظورة، إذ أن القانون الدولي الإنساني لا يحمي الإنسان فقط، بل يشمل واجب حماية الموارد الطبيعية والثروة الحيوانية التي يعتمد عليها المدنيون في بقائهم. كما أن المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر بشكل صريح النهب وأي شكل من أشكال العقاب الجماعي، وهو ما يمكن أن ينطبق على مصادرة الخيول أو حرمانها من الغذاء والدواء.
ويشير إلى أنّ سلب أو قتل الحيوانات، سواء عبر القصف أو التجويع أو المصادرة، لا يعد فقط خسارة بيئية وزراعية، بل فعلًا قد يُصنَّف "كجريمة حرب"، ما يستدعي توثيقًا ومساءلة دولية لحماية الإنسان والحيوان معًا.
في غزة، قُتل البشر والحيوان على حدٍ سواء. لم تنجُ الخيول من القصف والجوع والمرض، وباتت تنتظر نهاية غير مؤكدة. بين الركام والفراغ، يقف عبد العال متذكرًا صهيلها الغائب، ويردد السؤال الذي يطارده منذ البداية: "أين ذهبت خيولي؟".
خيول غزة تعاني من المرض