يجلس صلاح رجب (58 عامًا) على كرسي مهترئ، يحاول أن ينقل لابنه وأحفاده ما تبقى من ذكريات أرضٍ لم يعد لها وجود. كان يملك خمس دونمات في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، تغمرها أشجار الخوخ والمشمش والبرقوق، وحقول البطيخ والشمام التي كانت تملأ الصيف بحلاوة لا تُنسى؛ أمّا اليوم، لم يتبقَ سوى ركام.
"كان لدي خمسة آلاف شتلة لوزيات"، يقول الرجل ثمّ يصمت كما لو أنّه يحاول استعادة ما فقد، ويتمتم: "كل شيء انتهى"، بصوتٍ أجهدّته الحرب الإسرائيلية المستمرّة بتدّاعياتها المأساوية منذ عشرين شهرًا عليه وعلى آلاف المزارعين.
لم تكن خسارته مادية فحسب، فقد أُصيب رجب خلال قصف إسرائيلي، فبُترت يده وقدمه، وحُكم عليه بمشاهدة أرضه تتحوّل إلى أطلال من بعيد. خسائره تجاوزت 90 ألف دولار، لكن الألم الأكبر كان في عجزه عن العودة إلى ما عرفه طوال حياته وهو زراعة الأرض وجني ثمارها.
قبل اندّلاع الحرب في أكتوبر 2023، كانت غزة تعجُّ بحركة زراعية نشطة. ووفقًا لبيانات وزارة الزراعة، غطت أشجار الفواكه نحو 87 ألف دونم، محققة اكتفاءً ذاتيًا بنسبة 70%.
كانت حقول العنب تنتج 9 آلاف طن سنويًا، فيما انتشرت اللوزيات على مساحة 1900 دونم، منها 900 دونم خوخًا تنتج 2100 طن، بالإضافة إلى 660 طنًا من المشمش سنويًا. أما البطيخ والشمام، فكانا من قصص النجاح الموسمية، إذ بلغت إنتاجية البطيخ 50 ألف طن على 5 آلاف دونم، والشمام 12 ألف طن على ألفي دونم.
لكنّ كل ذلك أصبح من الماضي، إذ دمّرت الحرب أكثر من 75% من هذه الأشجار، أي ما يعادل 65 ألف شجرة مثمرة، ولم يتبقَّ سوى 10% من الغطاء النباتي في القطاع.
وتُقدّر الخسائر المباشرة للمساحات الخضراء بـ 19 مليون دولار أمريكي، في حين يتكبّد القطاع الزراعي خسائر يومية تتجاوز 106 ملايين دولار، بينما تشير التقديرات المحلية إلى أن إجمالي الضرر منذ بدء الحرب تجاوز 180 مليون دولار.
المهندسة الزراعية إرادة الزعانين، كانت تزرع بجوار منزلها في بيت حانون شمال قطاع غزة، باستخدام تقنية الزراعة المائية، وهي الأولى من نوعها في غزة، إذ تعمل عن طريق توفير أحواض بداخلها ماء وسماد للنباتات.
أنتجت الزعانين بتلك التقنية 12 صنفًا من المحاصيل، من الفلفل إلى الكركديه، فالزهرة، والبطيخ وغيرها. لكنها تجلس الآن، تتأمل صور أرضها المُدمّرة. "كنت أشتاق دائمًا لرؤية البطيخ ينمو"، تقول بصوتٍ حزين، "لكن اليوم حتى هذه الذكريات أصبحت مريرة".
بسمة حسين، أم لأربعة أطفال من خانيونس جنوب قطاع غزة، تتحدث عن الفواكه كما لو كانت ذكرى من زمن آخر. "كأنّ أطفالي لم يذوقوا طعم الخوخ أو المشمش الطازج"، تقول بمرارة. لم تكتف الحرب باجتثاث الأشجار، بل حوّلت ما تبقى من فواكه إلى سلعة نادرة بأسعار خيالية.
بعد منع الاحتلال دخول السلع، صارت الأسواق شبه خاوية. الخضروات المحلية التي نجا بعضها من القصف أصبحت تُباع بأسعار غير مسبوقة، والفواكه تحوّلت إلى حلم. "كنا ننتظر الصيف لنأكل البطيخ، أما اليوم فالصيف بلا طعم"، تقول بسمة، بينما ينظر إليها طفلها الصغير بعينين تبحثان عما لم يعد موجوداً.
الاحتلال يمنع، والحرب تُدمر، والأسعار تُفقر. ثلاثية حولت موسم الفاكهة إلى مجرد حكاية يُروى عنها. فهل ستعود رائحة الفواكه يوماً إلى أسواق غزة؟
غير أنّ الدمار لم يقتصر على الزراعة، فالصواريخ الإسرائيلية أفسدَت خصوبة التربة، ووفقًا لمختصين بيئيين، إنّ الحرب دمّرت القطاع الزراعي ما جعل الكثير من الأراضي غير صالحة للزراعة لسنواتٍ قادمة، وهو ما يُشير إلى خلل فادح في الإنتاجية سيتجلى في المواسم القادمة.
الخسائر في قطاع الفواكه ليست مجرد تدمير للأشجار والمحاصيل، بل هي ضربة قاصمة لنظام اقتصادي كامل كان يعتمد عليه آلاف العائلات. المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أن الدمار طال كل حلقات السلسلة الغذائية: "من المزارع الذي يزرع الشتلة، إلى العامل الذي يجني الثمار، والتاجر الذي ينقلها، وصولاً إلى البائع في السوق والمستهلك الذي يعتمد عليها كجزء أساسي من غذائه اليومي".
فقدان الاكتفاء الذاتي بنسبة 70% في فواكه مثل البطيخ والشمام واللوزيات يعني أنّ غزة أصبحت مضطرة لاستيراد هذه السلع بأسعار مرتفعة، إن توفرت أصلاً. ولكن مع الحصار الإسرائيلي المشدد، حتى عملية الاستيراد أصبحت مستحيلة. لذلك فإنّ النتيجة أسعار خيالية لفواكه كانت في متناول الجميع.
وتُشير تقديرات غرفة التجارة في غزة إلى أن القطاع الزراعي كان يساهم بما يقارب 15% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب، ويعمل فيه مباشرة أكثر من 40 ألف شخص. لكن اليوم، توقفت معظم الأنشطة الزراعية المرتبطة به، ما أدى إلى فقدان آلاف العائلات مصدر رزقها الأساسي.
الأكثر خطورة هو تأثير هذا الدمار على الأمن الغذائي. منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) حذرت في تقرير حديث من أن غزة تعيش أسوأ أزمة غذائية في تاريخها الحديث، حيث يعتمد 80% من السكان الآن على المساعدات الغذائية الطارئة. الفواكه التي كانت مصدراً مهماً للفيتامينات والعناصر الغذائية أصبحت غائبة عن الموائد، مما زاد من معدلات سوء التغذية خاصة بين الأطفال.
"ما يحدث ليس مجرد تدمير للزراعة، بل تفكيك متعمد لنظام الحياة"، يضيف أبو قمر. "عندما تُمنع الفواكه والخضروات من الوصول إلى الأسواق، وعندما تُدمر الأراضي الزراعية، فأنت لا تدمر الحاضر فقط، بل تقتل مستقبلاً كاملاً كان من المفترض أن ينمو من هذه الأرض."
القانون الدولي، كما يذكر المحامي يحيى محارب، يُجرِّم هذه الأفعال. "استهداف الأراضي الزراعية ومنع المزارعين من الوصول إليها هو سياسة تجويع ممنهجة، وتُعتبر جريمة حرب بموجب ميثاق روما واتفاقية جنيف". لكن القوانين تبدو بعيدة عن أرضٍ لم يعد فيها إلا الصمت.
في قطاع غزة اليوم، لم يعد العنب يتلألأ في الأسواق، ولا المشمش يملأ الأطباق. الثمار الوحيدة المتبقية هي تلك التي تحملها الذكريات. والسؤال الذي يظل عالقًا في الهواء: من سيعيد الحياة إلى أرضٍ جردتها الحرب من كل معنى؟ وكيف ستعود الأشجار للنمو في أرضٍ أصبحت حتى بذورها تحت الحصار؟
موضوعات ذات صلّة:
هذا ما جناه الناس: نصف إنتاج غزة الزراعي اختفى
سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد
كم تحتاج سلة غزة الزراعية وقتاً للتعافي؟
غزة: من عاصمة الفراولة إلى أرض جرداء