تمتد يدّ نادية صالح (22 عامًا) نحو شريط الأقراص المُسكِّنة، تلتقط قرصًا بسرعة كمن يخشى أن يغيب الألم للحظة ثم يعود بأشدّ. تتلوى على فراشها الوردي، بينما تتصاعد أنفاسها بصعوبة، وحبات العرق تخطّ خطوطًا على جبينها الشاحب. "المعلبات أنهكتني"، تقول لأمها التي تحاول تهدئتها بلمسات خفيفة على شعرها.
بعد ساعات، في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة، يُخبرُها الطبيب بأنّ ما تعانيه هو تسمم غذائي ناتج عن الاعتماد المطول على المعلبات – عشرين شهرًا من الحرب الإسرائيلية على غزة لم تترك خيارًا آخر، وبينما تعدّ لنفسها طبق سلطة كلفها 12 دولارًا، تقول: "اللحوم اختفت، والخضراوات أسعارها جنونية، فكانت المعلبات طوق النجاة الوحيد".
ليست نادية وحدها في هذه المعاناة؛ فأكثر من مليوني نسمة في قطاع غزة يواجهون أوضاعًا صحيّة كارثية جراء سياسة التجويع المُمنهجة التي يفرضها الاحتلال، عبر حصار المساعدات الإغاثية. فوفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي، يعاني 93% سكان القطاع من انعدام الأمن الغذائي، مما أدى إلى انهيار صحة المواطن الغزي.
رصد المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، حالات تسمم بسبب تناول معلبات منتهية الصلاحية، في ظلّ شُح الطعام.
و يُذكر في بياناتٍ صادرة عنه أنّ الاحتلال الإسرائيلي يمنع دخول 85% من المواد الغذائية الأساسية منذ أشهر، بينما يُسمح فقط بكميات محدودة من الطحين "لا تكفي لسدّ رمق الأطفال"، وفق التقرير.
في خيمةٍ بمدينة خانيونس جنوب القطاع، يفتح إسماعيل جودة (59 عامًا) علبة فاصولياء بيضاء بينما تُحيطه نظرات زوجته المحملة بالقلق. "كم مرة تناولنا المعلبات هذا الأسبوع؟" تسأله، لكنه يرفع كفّيه مستسلمًا: "سئمت من العدس كل يوم، والمعكرونة كل يومين. وليس بمقدوري شراء الخضار".
قبل أشهر، أُصيب الزوجان بارتفاع ضغط الدم وتقيؤ متكرر. التشخيص الطبي كان واضحًا: "تسمم من معلبات منتهية الصلاحية أو مخزنة تحت أشعة الشمس". لكنّ إسماعيل يعيد الكرّة اليوم، لأنّ السوق لا يعرض أمامه بديلًا آمنًا، وسط ارتفاع هائل لأسعار أصناف الخضروات المُتبقية.
يرصد البنك الدولي ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 437% منذ بدء الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023. الأرقام هنا ليست مجرد إحصاءات، بل قصص يومية، فالقوة الشرائية انهارت بنسبة 89%، وثلث السكان يعانون من سوء التغذية.
وعلى الرغم من السماح مؤخرًا بدخول كميات محدودة من الطحين –لا تكفي لسدّ حاجة السكان– بقيّ دخول اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه ممنوعًا، مما يدفع الأهالي إلى الاعتماد على بقايا الأغذية المعلبة الفاسدة أو منتهية الصلاحية، كملاذ أخير لتفادي الموت جوعًا.
في أحدّ مراكز الرعاية الصحيّة بغزة، تشرح مختصة التغذية ريم ولد علي وهي تمسك بعلبة تونة منتفخة الجوانب: "هذه العبوة قد تحمل إنقاذاً سريعاً، لكنّها قد تخفي دماراً بطيئاً".
توضح ولد علي أنّ المعلبات الغذائية يمكن أن تكون آمنة نظرياً إذا توفرت شروط محددة: تاريخ صلاحية واضح، تخزين مناسب بعيداً عن الحرارة والرطوبة، وعبوات سليمة.
"لكن واقع غزة يحوّل هذه الأطعمة إلى خطر داهم"، تضيف مشيرة إلى المساعدات الغذائية التي تبقى لأسابيع عند المعابر تحت أشعة الشمس الحارقة؛ مما يفقدها قيمتها الغذائية ويزيد من احتمالات التلف.
تكشف ولد علي أنّ عملية التعليب نفسها تسلب الطعام جزءاً كبيراً من قيمته الغذائية. "خلال المعالجة الحرارية، نفقد ما يصلّ إلى 70% من الفيتامينات الحساسة مثل فيتامينات B وC، وكذلك مضادات الأكسدة التي يحتاجها الجسم لمقاومة الأمراض".
أمّا الأخطر هو ما يضاف أثناء التصنيع: "نترات الصوديوم" التي تتحوّل في الجسم إلى مواد مسرطنة، و"فوسفات الصوديوم" الذي يؤثر على صحة القلب والأوعية الدموية، وكميات الملح الزائدة التي ترفع ضغط الدم، في حال استمر الجسم في تناولها لفتراتٍ طويلة.
وتلفت مختصة التغذية النظر إلى خطر خفي آخر، وهو المواد الكيميائية التي تنتقل من العبوات إلى الطعام، مثل "البرابين" الموجود في البطانة البلاستيكية للعلب المعدنية. "هذه المواد تتراكم في الجسم على المدى الطويل، وقد تؤدي إلى اضطرابات هرمونية ومشاكل في الغدد الصماء".
نصيحتها تأتي واضحة لكنها تعرف صعوبة تطبيقها: "يجب فحص كل عبوة قبل الشراء. الانتفاخ، الصدأ، الخدوش أو أي تشوّه في العلبة علامات خطر". ثم تضيف: "الحدّ الأقصى ثلاث علب أسبوعياً، لكني أعلم أن كثيرين في غزة لا يجدون بديلاً عن تجاوز هذا الحدّ يومياً".
السيدة صباح خليل (48 عامًا) تعرف هذا جيدًا. بعد أن خسرت 15 كيلوغرامًا من وزنها، وأصيبت بمرض السكري، عانت من حالةٍ نفسية سيئة وحاولت الابتعاد عن المعلبات. لكنها عادت إليها خلال فترة وجيزة، تقول بعد تنهيدة طويلة "الجوع أقوى من التحذيرات". فيما تعاني اليوم من آلام مستمرة في المعدة، لكنها ترفض الذهاب إلى الطبيب: "ماذا سيقول لي؟ أن أتوقف عن الأكل؟".
وتُشكِّل سياسة منع الاحتلال دخول المواد الغذائية الأساسية، كما يؤكد خبراء القانون الدولي، انتهاكًا صريحًا للمادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية، والتي تكفل "حق الإنسان في الغذاء". كما أن تجويع المدنيين يُعدّ جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي.
لكن القوانين لا تطبخ الطعام. ففي شوارع غزة، يبحث الناس عن أيّ بديل حتى علب الحليب الفاسدة أصبحت تباع بأسعار باهظة. ولسان حالهم يقول: "نحن لا نختار الموت، الموت هو من يختارنا: إما بقصف، أو بعلبة تونة".
السؤال الذي يطفو على السطح هنا ليس عن كيف يعيش الغزيون؛ بل كم ستصمد أجسادهم أمام هذه الحرب الصامتة. فبينما يركز العالم على دويّ القنابل، هناك كابوس آخر يتسلل إلى دماء الغزيين عبر علب صفيح لا تحمل تاريخ انتهاء واضحًا، لكنها تحمل نهاية مؤجلة.
موضوعات ذات صلّة:
الجوع يجرُ الأطفال لمسليات فاسدة وسامة
الطحين الفاسد على موائد الجائعين
فلسطينيون في المستشفيات... المعلبات والأطعمة الفاسدة تسمّم أهل غزة