حين تُغلق "سمية أبو ندى" على نفسها باب الأستوديو الصغير، فكأنما تنتقل إلى عالمٍ موازي لا يمت لعالمنا بصلة، هناك حيث تستقر روحها أمام الميكروفون المعلق، وتفرد أجنحتها في الوقت الذي لا يتسع لهما المكان الضيق حولهما.
تباشرُ بقراءة النص الذي تدربت عليه قليلاً في الخارج، ثمّ تستمتع بصوتها الذي ينفخ الروح في النص الجامد على الورق، لتحلق الحروف، وتزقزق علامات الترقيم، وتصبح للكلمات ألواناً مسموعة على غير العادة.
أبو الندى، خريجة دراسات إسلامية من إحدى الجامعات المحلية، قضت سنوات طويلة بعد تخرجها تتدرب في مجالات عدة تتعلق بالكمبيوتر، اللغة الإنجليزية، الرسم، التعليق الصوتي والمهارات الحياتية، لكنّ ما لم تتوقعه يوماً أن ترتزق من عمل لم تختص بعلومه في الجامعة، وأن تتأهل لتصل العالمية يوماً ما.
الشابّة التي اصطدمت بواقع البطالة بعد تخرجها من الجامعة، قررت أن تباشر بطرق أبوابٍ جديدة وفتح مجالاتٍ عدة أمام أعينها، "رفضتُ أن يسيطر الإحباط عليّ، تطوعت في فريق شبابي، وادّخرت النقود لشراء جهاز لابتوب يساعدني في تعلم مهاراتٍ جديدة" تتحدث الثلاثينية، لـ آخر قصة عن بدايات مشوار بحثها عن الشغف، وفي قلبها إصرار أن الاستسلام لم يُخلق لأمثالها.
أدمنت سماع الإذاعة منذ نعومة أظفارها، تمسك فرشاة الشعر في محاولة لمحاكاة المايك، وتهمّ بتقليد كبار المذيعين أمام المرآة فور اصطدامها بأي نصِّ أمامها، كانت خالتها أول من نثر الغبار عن هذا الاكتشاف حين باغتتها بقول "والله صوتك حلو يا خالتي"، لتخرُج الفكرة إلى رأسها بعدما لمعت في ذهنها: "ولِمَ لا؟!".
بدأت أبو الندى رحلة البحث عن كيفية ممارسة هذا الشغف متجولة بين الإذاعات المحلية، علّها تجدّ ضالتها، لتُصادف مصطلحات ومهارات جديدة، كالهندسة الصوتية، والمقامات، والتوزيع الموسيقي، وكأنها كانت في مرحلة إعداد وتجهيز لمهمةٍ صعبةٍ قادمة، هذا ما خطر ببالها عندما تواصلت معها صديقتها تقول: "الحقي يا سمية، أعلنوا عن دورة التعليق الصوتي إلي بتبحثي عنها من زمان!"، تسردُ الموقف وقد انفرجت شفتاها عن ضحكة عريضة، كأنما تعود لمعايشة الحدث من جديد.
لم تكن الأمور وردية في البداية، فرغم انتسابها للتدريب إلا أن مطبات عدة واجهتها خلاله، خاصة عندما لاحظت علامات الامتعاض على وجه مدربتها، في أولى تجاربها بالتعليق الصوتي، الشيء الذي دفعها للاجتهاد أكثر وتقويّة صوتها لينافس أقرانها في المجال والتواصل مع معلقين كبار للحصول على نصحهم وإرشاداتهم.
"النصوص، الاستماع، القراءة بكثافة شغلت جزءً عظيماً من يومي وقتئذٍ، حيث أستمع للمعلقين بغض النظر عن موضوعهم، أركز على نطقهم لمخارج الحروف، تلوين كلماتهم، ووقوفهم على نهاية الجمل" تقول سمية وهي تجول بنظرها بين أنحاء المكان، في محاولة لوصف هذا الإصرار الذي أبهر مدربتها وأقرَانها من تطورها المستمر خلال التدريبات وأهلّها لدخول مجال العمل الحر.
لم تتوافد طلبات العمل عليها بسرعة، فالتسويق عبر منصات العمل الحر ليس بالشيء الهيّن، خاصة أن التعليق الصوتي يحتاج لأدوات باهظة الثمن وبيئة مناسبة، الشيء الذي دفعها في البداية لتسجيل مقاطع صغيرة عبر استوديوهات محلية، بهدف عرض نماذج أعمالها عبر موقعها الخاص، ثم انتظار الزبائن ليطلبوا إنجاز الأعمال.
هذه الفترة، تصفها المعلقة الصويتية بأنها تحتاج لـ "الصبر والنفس الطويل"، فالدخول إلى معترك العمل الحر كاد أن يسبب لها إحباطاً إن استعجلت جني الثمار، خاصة وأنّ "الأداء الصوتي، لا يتطور بكثرة التدريب، بقدر ما يتطور عبر مرور الزمن، وبالتالي يتطور الإيقاع، وبمجرد توقف المعلق عن سماع أصوات زملائه، اغتر بنفسه ظاناً أنه لا يخطئ، وهذا أخطر ما يقع به المعلقون" تصف قناعتها محركة يدها بحماس معلمّةٍ تشرح درس فيزياء صعب لتلاميذها.
تلك القناعات التي وضعتها كحجارة أساس لطريقها، تسمع وتُلقي، تقرأ وتكتب، تدمج نبرتها بنبرةٍ أخرى أعجبتها، تعدّل من طبقتها في كلِّ مرة، حتى صنعت الهويّة الصوتية الخاصة بها عبر إنتاج الأعمال بشكل مستمر للزبائن على اختلاف جنسياتهم، حتى وصل صوتها لشركات عربية وعالمية.
مشروع إنشاء شركة خاصة بالتعليق الصوتي لم يغادر ذهن أبو الندى منذ أول خطوة لها في المجال، وذلك ما سعت لتحقيقه حين قدمت فكرة المشروع لحاضنة تهتم بتمويل أفضل أفكار الشركات الناشئة "الستارت آب"، دخلت المقابلة و اجتازتها بنجاح، لتجد نفسها عالقة بالخطوة التالية "كيف أكوّن فريق المشروع؟".
"تطوعي في الإذاعات، ودخولي في التدريبات المختلفة ساعدني على تكوين شبكة علاقات واسعة ساعدتني في العثور على فريق تعليق صوتي لإنشاء الشركة في وقتٍ قياسي(...) ورغم بهوت الرؤية وعدم وضوح الخطوات التي سنمر بها إلا أنّ الإيمان بالفكرة دفعنا لأخذ هذه المغامرة على عاتقنا" تتحدث سمية وفي عينيها لمعان يسترجع المعيقات التي واجهتها والفريق في البدايات.
"أوصال".. الاسم الذي أطلقه الفريق على شركته الخاصة بالتعليق الصوتي، يختارون مكاناً صغيراً ينشؤون فيه الاستوديو وغرفة الهندسة الصوتية بشكلها الأولي، ثم يبدؤون بالتسويق ونشر عيناتٍ من أعمالهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كأن هذا المشروع ليس أمامه خياراً سوى أن ينجح!.
تتدفق طلبات العمل على الشركة وتكبر إلى أن تصل شركات في تايلاند، وأمريكا، وشركات عربية مرموقة، فتضرب "أوصال" بقدميها بقوة في مجال الإعلانات وإنتاج التقارير والأفلام، حتى وصل عدد العاملين لدى الشركة ما يقارب 30 معلقاً صوتياً من حول العالم بعدة لغات.
"في هذا المكان اختلفنا في الرأي، تشاجرنا، تصالحنا، عملنا بجدِّ وشغف، اتفقنا أن ننجز ونطمح للمزيد دائماً" تسترجع الشابة الريادية بصوتها الذي تحشرج تأثراً، ذكريات الفريق في مكانهم الذي أنشأوه معاً منذ اللحظة الأولى.
ولأن مخزون الأحلام لا ينضب، ولا يقف عند نقطة محددة، فإن أمنياتها لا زالت في ازدياد، خاصّة عندما تأهلت للتصفيات النهائية لـ "جائزة فنون الصوت العالمية" لعام (2021) المنعقدة بنيويورك، بالتنافس إلى جانب كبار المعلقين الصوتيين العرب والعالميين عن فئة "راوي متميز- أفضل تعليق صوتي عربي".
"إن عدم حصولي على الجائزة في نهاية المطاف لا يلغي فرحتي بالمنافسة مع أشخاص عملوا لأكثر من 15 عاماً في المجال، ومقارنتي بِهم رغم صغر تجربتي" تقول سمية وهي ترصد أحلامها القادمة، وتنسج الطموح بدقة للأعوام التالية.
تضيف "أربع سنوات من العمل في مجال التعليق الصوتي، كل يوم تعلمتُ شيئاً جديداً، ونشرتُ ثقافة العمل الحر في المجتمع من حولي، ولا زلت أمسك بيد كل من يحتاج المساعدة ليبدأ، حتى لو كان على حساب وقتي؛ ذلك أنني أستثمر في الإنسان.. وهذا أعظم ما ننجزه".