في ستينيات القرن الماضي، اشترى الحاج أحمد أبو نحل، المُهجر من قرية برير إلى مدينة غزة، جهاز راديو للاستماع للمحطات الإذاعية، في الوقت الذي كان نادراً ما يستطيع أحد من الفلسطينيين اقتناءه. وبعدها بسنوات قليلة اقتنى تلفزيوناً يبث بالأبيض والأسود، في الوقت الذي لم يكن يصل إلى منزله خط كهرباء.
اقتناء جهازَيْ الراديو والتلفزيون في تلك الحقبة، أثار اهتمام أصغر أبنائه "بشير" الذي أحب استكشاف هذه الأجهزة حتى أصبح مولعاً بالإلكترونيات.
أنهى بشير تعليمه الثانوي في السبعينيات بتفوق، لكن وبسبب عدم توفر جامعات في غزة آنذاك، رفض السفر إلى القاهرة لاستكمال رحلة التعليم الجامعي، وبدأ رحلته العملية.
يقول بشير سبعين عامًا لـ آخر قصة "أنهيت الثانوية العامة بتفوق، وكنت أجيد اللغة الإنجليزية في حينه، ما دفعني للعمل كمترجم في ميناء غزة للسياح والصحفيين الأجانب، وبعدها أصبحت رئيس قلم حتى عام 1973.
ثلاث سنوات من العمل كمترجم، كانت كفيلة بتعزيز لغته الإنجليزية وتعلم شيئاً من اللغة اليونانية، يقول الرجل.
بشير المكنى بـ "أبو أحمد" يقطن في حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة. يقيم في حجرة ذو سقف عالٍ، وعلى الرفوف تتراص أجهزة إلكترونية متعددة إلى جانب أقراص الدواء التي يتناولها للتخفيف من آلامه البصرية والعظمية.
يشير الرجل الذي لازال يحتفظ بعد أن تجاوز السبعون عاماً بـ "راديو" قديم وكاميرات تصوير فيديو من نوع سوني وكانون، إلا أنه في بداية حياته، كان انجذابه للكاميرات الإلكترونية، وخاصة كاميرات تصوير الفيديو، والتي أصابته بحالة من الـ"هوس" كما قال.
اقتنى المسن أبو أحمد أول كاميرا عن طريق مصور فرنسي شهير كان في غزة في ذلك الوقت، اسمه موريس، كان الاستوديو الخاص به مشهوراً في شارع عمر المختار وسط المدينة، حيث كان يزوره باستمرار محاولاً التعرف على أنواع الكاميرات وميزاتها، إلى أن تمكن من شراء واحدة.
بمجرد حصوله على الكاميرا، بدأ بفحص إعداداتها لفهم إمكانياتها وكيفية استخدامها، وبالطبع ساعده "موريس" على ذلك، ومن هنا دخل "بشير" عالم التصوير. يقول الرجل إنه بدأ العمل في مجال تصوير الحفلات والمناسبات للغزيين، حيث يعد من أول ثلاثة شباب فلسطينيين بدءوا العمل في مجال تصوير الفيديو بغزة، وأضاف: "كان التصوير مكلفاً آنذاك... أذكر أنني كنت أحصل على 200 دينار أردني، مقابل تصوير الحفلة الواحدة".
لم يتوقف الأمر هنا مع "أبو أحمد" الذي حول هوايته إلى مهنة لزيادة دخله، بجانب عمله في أحد مصانع النسيج داخل إسرائيل، حيث عمل هناك قرابة خمسة عشر عاماً قبل انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وكان كلما إستلم مبلغاً من المال، اشترى قطعاَ إلكترونية تساعده في تطوير عمله، مثل السماعات والميكرفونات وأجهزة الصوت، وقد استهوى الأمر شقيقه "أديب" الأكبر سناً فعملا معاً في ذات المجال.
خلال تلك السنوات، زاد شغفه باقتناء الأجهزة الإلكترونية، من كاميرات وتلفزيونات وأجهزة موسيقية ومعدات أخرى، وكان كلما سمع عن إصدار جديد طُرح في السوق، سارع لإقتِناءه وبيع القديم منه، "في بداية الثمانينيات كنت بشتغل في منزل داخل اسرائيل وشفت تلفزيون إصدار جديد عند صاحبة البيت، سألتها من أين اشترته، وأخبرتني أن ثمنه مرتفع، ما همني طلبت منها تشتريلي مثله، كنت بغار صراحة، وبحب أمتلك كل إصدار جديد من الأجهزة الإلكترونية".
تزوج بشير وشقيقه الأكبر من فتاتين مصريتين، وقد كان ذلك بطلب من والده، "كان زواج تقليدي، لا كنت بَعرفها ولا بتعرفني، ولا شافتني ولا شفتها، على الصورة فقط جرى عقد قراننا"، وحصلت العروسين على ما يعرف بـ "لم شمل" بعد نحو ستة أشهر.
عاش "أبو أحمد" برفقة زوجته المصرية، التي رافقته طوال سنوات حياته وعمله، يتذكرها ويقول وقفت إلى جانبي وسَاندتني كثيراً.. كنت اصحبها في رحلة أسبوعية لتعريفها بالمدن الفلسطينية المحتلة.
يتابع الرجل قوله "استمريت بالعمل كمصور حتى بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبعدها وبسبب الأوضاع المضطربة قررت ترك العمل كمصور لكن لم ينتهي شغفي، واستمريت في اقتناء الكاميرات لتصوير الحفلات العائلية والمناسبات الخاصة، وفي ذات الوقت بدأت باقتناء السيارات، وعملت سائقاً".
إلى جانب شغفيه بالإلكترونيات صار العم بشير مولعاً بالسيارات وأنواعها، ومواصفاتها وقدراتها وميزات كل واحدة منها، وكثيراً ما كانت تروقه ماركة "بيجو"، والتي يرمز إليها بـ "الأسد".
في بداية التسعينات بدأ العم بشير، بملاحقة إصدارات أجهزة الحاسوب ومن ثم الاهتمام بالإنترنت، وعن تلك التجربة يقول ضاحكاً "أول مرة رأيت فيها جهاز كمبيوتر نظرت إليه مطولاً ولم استطيع تشغيله، استفزني، وقررت حينها الحصول على دورة كمبيوتر من أجل التعامل معه".
حافظ "أبو أحمد" على شغفه حتى يومنا هذا، فبإمكانه الآن أن يفسر لك نظام تشغيل الأندرويد و iOS، أو آخر ما وصلت إليه قدرات الحواسيب والأجهزة اللوحية في التطور التكنولوجي، فضلاً عن ملاحقته عبر يوتيوب لكل ما هو جديد في عالم السيارات.
وقال "لدي خط إنترنت وهاتف حديث، ولازلت مهتماً بكافة الإصدارات الحديثة والتطورات التي أُدخلت على الجيل الجديد منها".
صحيح أن الرجل فقد زوجته قبل عدة أشهر إثر إصابتها بفيروس كورونا التي لم تستطع مقاومته، على عكسه هو، لكنه لم يفقد شغفه في متابعة كل ما هو حديث إلكترونياً.
كما لازال محتفظاً بأجهزته التي مضى عليها عقود داخل حقيبة قديمة، إلى جانب أوراق ملكية وثبوتية وغيرها من مقتنيات. يقضي الرجل اليوم أغلب أوقاته جالساً أمام مسكنه بلا عمل فقدماه لم تعد تحملاه على فعل شيء، غير أنه لا زال يعتبر المستشار التقني الأول لجيرانه ومعارفه من المحيطين.