ألعاب شعبية رسمت على الأرض و حفرت في الذاكرة.. ما قصتها؟  

براونجية، إدريس، أم تسعة 

ألعاب شعبية رسمت على الأرض و حفرت في الذاكرة.. ما قصتها؟  

يبدو المشهد كأنه اقتطع من فيلم وثائقي باللونين الأبيض والأسود و تتساءل بينك وبين نفسك كيف استطاعت لعبة مرسومة على التراب أن ترسّخ في الذاكرة و تتناقلها الأجيال وكأنها وشم لا تتغير ملامحه.

الحاج الستيني أبو سليمان يجلس متربعاً في ساحة منزله أو ما يعرف بـ"الحوش"، يمسك بعود رفيع يستخدمه في رسم خطوط متقاطعة تبدو مألوفة جداً لأحفاده الأربعة الذين التفوا حوله هو وجاره -من ذات الجيل- يضحك الأطفال "إنها البرونجية"، التي يعتبرها الجد فسحة  للترويح عن النفس كلما سنحت الفرصة برفقة الجيران والأحفاد.

"محدش بيَغْلِبنِي فيها" ضحك الحاج متحدياً جاره بنظراته وحركة يديه، ومتوعداً إياه بـ "دق حامي" أي شوط صعب من اللعب. بدأ كل منهما بوضع أحجاره التسعة على الخطوط المرسومة بجو من الصمت والتركيز لا يقطعه سوى همسات الأحفاد وكأنهم جميعاً في اجتماع مهم.

هذه اللعبة الشعبية المسماة محلياً بـ"البراونجية" أو الأقل تعقيداً "الإدريس" وأخرى يسميها البعض بـ"أم تسعة" وألعاب كثيرة رسخت في الذاكرة الفلسطينية. تتسم بالممارسة الحرة و تحتكم لقوانين وقواعد خاصة متعارفة بين اللاعبين، وتشكل دليلاً واضحاً على ديمومة الإرث الإبداعي الشعبي الفلسطيني، حيث إنها وحتى وقتنا هذا معروفة بين الأطفال في الحارات، وقد توارثوها بكل شغف عن آبائهم وأجدادهم، رغم التطور التكنولوجي.

وتتنوع الألعاب الشعبية لتناسب الجميع كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، وتَجمع مختلف الفئات، حيث كانوا يقضون وقتاً في الحارات القديمة يتنافسون عليها لساعات متواصلة، وسط أجواء من الضحك والمزاح، والتشجيع.

لم يبدُ الأمر بهذه السهولة التي نتوقعها، رغم بساطة ما نرى على الأرض من خطوط وحجارة مرتصة بطريقة يعرفها معظمنا، ولكنها في المقابل رسمت على وجوه اللاعبين ملامح من التركيز التي أظهرتها حركة العين واليد وقليل من التردد في بعض المواضع وتفكير عميق ينقطع بنفس طويل بعد كل حركة، فإذا دخلت في عقل أحد اللاعبين، تجده يتساءل أين أحرك الحصى دون أن أخطئ أو أكون في وضع حرج؟ هل أبقى في المكان الآمن أم أفاجئ الخصم بحركة  خطيرة؟.

وسط هذا الحماس، بين لاعبين متمرسين، يضحك الطفل سعيد وهو يضرب بيده على الأرض ويقول: "يلا يا سيدي حرك الحجر الطرفاني"، وآخر يهمس في أذن جده "هنا هنا زي ما حكيت لك اسمع مني"، والخصم يحاول استعجاله "خلّص يا حج هي قضية شرق أوسط، حرك الحجر".

سؤال بسيط للحج أبو سليمان الذي ارتدى قميصاً مخططاً وقبعة صوفية تحمي رأسه من هواء نيسان البارد: لماذا تعلم أحفادك هذه اللعبة الشعبية؟.

يجيب بعد أن يلتفت بنظر ثاقب: "يمكن علشان يتوقفوا عن التركيز في الجوال اللي بيإذي عيونهم، وفي نفس الوقت اللعبة بتعلم الحكمة والتروي والتفكير المسألة مش نقل حصى... هي لعبتنا القديمة إلي خَلقت عنا بعد نظر، أبعد بكثير من نظرة جيل هالأيام".

وتعد لعبة براونجية واحدة من الألعاب الشعبية الرومانية القديمة، والتي اشتهرت بتعليمها وتنميتها بناء الفكر الإستراتيجي لدى لاعبيها بين الرومان، وتناقلتها الشعوب والحضارات، كجزء من التسلية والترفيه الهادف في تنمية العقل وتنشيط الفكر.

سعيد ذو العشرة أعوام والذي كان محملقاً بعينيه في كل حركة يفعلها جده يقول لـ آخر قصة "تعودنا على سيدي من واحنا صغار نقعد كلنا وبنلعب وأنا صرت شاطر زي سيدي بغلب كل ولاد عمي باللعبة لأنهم متسرعين بس انا بفكر قبل ما انقل الحصى". 

اللعبة الشعبية هذه لم تشتهر بالتراث الفلسطيني فقط، بل تشابهت مع كثير من الألعاب في الثقافات العربية الأخرى ولكن باختلاف المسمى وبعض القوانين وتجتمع كلها في التسلية. غالباً ما كانت تمارس هذه اللعبة في الحارات والشوارع وأمام البيوت والساحات القريبة، وتقوم الفكرة على أن يجمع اللاعب ثلاث حصى في خط واحد مستقيم، ويسد الطريق على خصمه ويسحق حجارته حتى يظفر بالفوز.

وفي خطوة للمحافظة على هذا التراث طور مبرمجون فلسطينيون هذه اللعبة بما يتناسب مع متطلبات هذا الجيل وميله لألعاب الموبايل الحديثة والأجهزة اللوحية وبهذا جمعوا بين جيلين عبر لعبة "الـبرونجية" الإلكترونية، التي تمارس عبر شاشة الهاتف، ويمكن مشاركة أكثر من صديق بها، وبذلك تتحول للعبة جماعية.

تقول الشابة نسمة عاشور لطالما لعبنا هذه اللعبة و تعلمناها من أمي وأخوالي فهي مسلية إلى حد كبير، خصوصًا أثناء العدوان على قطاع غزة بين حين وآخر، وفي إجازات الشتاء، لاسيما أن أمي كانت تخشى خروجنا من المنزل وتفضل بقاءنا بالقرب منها.

أما والدتها أم محمد (53 عاماً) والتي شاركتنا الحديث حول اللعبة تقول كنا ننتظر وقت اللعب الذي يجمعنا مع الجيران بين آذان الظهر والعصر تحت أشعة الشمس، في الشارع المحاذي للمسكن، وننقسم ما بين مشجع ولاعب وغالب ومغلوب و تعلو أصواتنا وضحكاتنا".

تفتقد أم محمد تلك الأجواء القديمة، قائلة: "انتشرت ألعاب الموبايل وشاشات التلفاز… كل شيء قد تغير حولنا، وانتقل التفاعل من جو الألفة والحماسة إلى الوحدة التي تغذي العصبية لدى الصغار، في زماننا لم نكن نملك الكثير من فرص الترويح عن النفس غير الألعاب الشعبية، وختمت بابتسامة هادئة : "راحت الأيام الحلوة". 

ويعتقد المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض، أن في إعادة إحياء هذه الألعاب الشعبية  محاولة لتأصيل هوية المجتمع الفلسطيني.

واعتبر المؤرخ المبيض تلك الألعاب الشعبية، بأنها تأتي ضمن النسيج الاجتماعي الشعبي، كجانب ترفيهي محمولاً على مجمل التجربة الحضارية، داعياً إلى إعادة إحياء الألعاب الشعبية، بمهرجانات وطنية خاصة بها؛ كونها تثري الحالة الذكائية والوجدانية والتعاونية بين الناس.

ويرجع المبيض، غياب هذه الألعاب، لوجود بدائل ترفيه وتسلية قوية وتكنولوجية، لم تكن متوفرة سابقاً، رغم أن هذه الألعاب ما تزال متداولة بين كبار السن في بعض البيوت. 

الغريب في أمر هذه الألعاب، أننا كلما ذكرناها أمام من تجاوزوا الخمسين من العمر أخرجوا  زفراتُ عميقةُ، وترحموا على الماضي. هذا الإحساس بالنوستالجيا يلخصه كوبليه فيروز "بدي ارجع بنت صغيرة على سطح الجيران… وينساني الزمان على سطح الجيران".