تنام أسرة كاملة على أرضية طينية يعلوها حصير بالٍ وسط خيمة مغطاة بالنيلون منذ ما يزيد عن عشرة أعوام، ورغم ذلك لم يعتاد افراد الأسرة احتمال برد ديسمبر القارس.
تطل "أمل" وهي البنت البكر في هذه الأسرة، برأسها من فوق جدار صفيحي، وتنادي اشقاءها الصغار الذين يلهون في الساحة الخارجية الملاصقة للخيمة. "تعالوا إلى هنا.. تعالوا، لقد اعدت أمي لكم الأغطية حتى تتدثروا من البرد"، لكن لا أحد يكترث إلى كلامها.
تضع الأم سجادة حمراء بطول يزيد عن ستة أمتار تتصل بمدخل الخيمة، على غرار تلك التي تستخدم في البروتكولات الدبلوماسية، والأمر جاء بمحض الصدفة، فالأم التي لم تكمل تعليمها الاعدادي اعتادت أن تسخر كل المعونات التي تتلقاها لتحسين الظروف المعيشة في هذه الخيمة المقامة على بعد نصف كيلو متراً من الحدود الشرقية لقرية "المصدر" وسط غزة، مع اسرائيل.
من باب الترف والزينة تضع الأم أباريقاً وأحواضاً لأشجار الزينة على طرفي السجادة، وقالت وهي تخبئ ضحكتها بطرف شالها الأبيض: "أحاول أن أجمل الخيمة في عيوني صغاري".
وغالباً ما تُكمل عشرات العائلات البائسة حياتها في مكانٍ يكاد أن يكون منفى، إما بفعل تدمير مساكنها نتيجة الحروب المتكررة على قطاع غزة، أو لقلة ذات اليد. وفي الحالتين فإن الخيمة هي المأوى.
ويزيد مستوى العجز في الوحدات السكنية بقطاع غزة، عن 120 ألف وحدة، وفق تأكيد وكيل وزارة الأشغال العامة والأسكان في غزة ناجي سرحان. وسبق وأن أشار سرحان في تصريح صحفي إلى أن القطاع إلى 12 ألف وحدة سكنية سنوياً، بيد أن الحروب المتكررة تضاعف نسبة العجز.
تقول الأم وتدعى سناء (اسم مستعار) ليس أمامنا من خيار سوى العيش في هذا المسكن الذي تنعدم فيه الاستقلالية (..) نحن بالكاد استطعنا أن نستقطع ركناً داخل الخيمة وحولناه إلى حمام، نغطيه بقطع القماش من كل اتجاه".
مكونات الحمام الذي تستر مدخله ستارة قماشية بالية، مرحاض أرضي وقطعة صابون وأبريق وليفة نباتية للاستحمام، وعلى إحدى جانبيه يستند حوض بلاستيكي كبير، تقول الأم إنها تستخدمه لغسل الملابس.
تحمرُ وجنتي سناء (28 عاماً) وهي تقف في منتصف برواز خرساني يقف على أعمدة ويفصل بينها أرفف خشبية، تسميه المطبخ.
تتعدد مسميات الأطباق في مطبخ سناء والصنف واحد، فالبقوليات هي سيد السفرة، غير أنها تطهى على أشكال مختلفة، فتارة تصنع حساء العدس وأخرى تصنعه كفتة وفي أحيان تصطلح عليه "دمسة"، وهكذا دواليك.
في غمرة الحديث عن أصناف الطعام في مساكن الفقراء، تقاطر دلف ماء تساقط من ثقف في أعلى الخيمة، فبدأت سناء بالبحث عن وعاء لجمع الماء.
تنحينا جانباً حتى تأخذ حريتها في عزل الأغطية التي تغطي غالبية أرضية الخيمة، وقدمنا سؤالاً: "كيف ينام الصغار هنا.. أليست أرضية المنزل مهيئة لأن تتحول إلى وحل في لحظة انهمار المطر؟
تجيب السيدة باستهتار وهي مغمسة في مهمتها: "هذا أمر طبيعي.. دائما ما يحصل هذا الأمر، وكل ما يمكننا فعله هو أن نضع أوعية كهذه لاحتواء الدلف"، وتضيف "في الصباحات المشمسة نقوم بوضع المزيد من قطع النيلون فوق الخيمة لرتق الخرق.. ليس هناك خيارات سوى التعايش مع هذا الواقع".
في الأثناء، تشاجر طفليها الأكبر والأصغر حول دمية قطنية على شكل دب نزع أحدهم حشوها من القطن فدت أكثر سوءاً. بعدما فضت الأم النزاع بقي الصغير ينحب، لكنها قالت إن هذا النزاع روتيني ويحصل بشكل متكرر خلال اليوم، إذ ليس هناك ما يمكن أن يشغلهم ولا حتى الدراسة.
وعلى ذكر الدراسة، كان من الضروري معرفة الحالة التي يكون عليها الأطفال خصوصا في هذا التوقيت المتزامن مع الامتحانات النهائية للفصل الدراسي الأول من العام 2021-2022، فقالت إن الخيمة تتحول إلى فصل دراسي، وإن كل واحد من أطفالها المنخرطين في المرحلتين الابتدائية والاعدادية، ينشغل في التحضير لاختباراته. وكان من الواضح أنها غير راضية تماماً على مستوى تحصيلهم الدراسي.
على أثر ذلك، كان لابد من طرح سؤال حساس حول العلاقة بين الفقر وزيادة عدد أفراد الأسرة، وبخاصة أنها أنجبت سبعة أبناء في هذه الخيمة التي لا تتجاوز مساحتها ثلاثين متراً. فقالت إنها كانت تفضل تنظيم النسل، غير أن زوجها يرفض الفكرة جملة وتفصيلاً.
تشير الإسقاطات السكانية حسب آخر أرقام صادرة عن المركز الفلسطيني للإحصاء، إلى أن معدل المواليد الخام في فلسطين بلغ 29.5 مولوداً لكل 1000 من السكان عام 2021 حيث بلغ هذا المعدل في الضفة الغربية 27.2 مقابل 32.9 في قطاع غزة.
ووفقاً لدراسة مسحية أعدها المركز الاحصائي، فإن 13% من النساء في فلسطين لديهن حاجات غير ملباة لتنظيم الأسرة، حيث تفيد بيانات المسح العنقودي 2019-2020 بأن نسبة النساء في الفئة العمرية 15 - 49 عاماً والمتزوجات حالياً والقادرات على الإنجاب ويرغبن في المباعدة بين الأحمال أو الحدّ من عدد الأطفال ولا يستخدمن أي وسيلة لتنظيم الأسرة قد بلغت 12% في قطاع غزة.
ويتضخم العبء الملقى على الأمهات بالنسبة للأسر الفقيرة، وبخاصة أن فئة كبيرة من الأزواج متعطلين عن العمل. تتجشم المواطنة سناء عناء البحث عن المعونات في ظل عدم قدرة زوجها عن العمل، وتقول إنه من الصعوبة بمكان وصول باحثو المراكز الإغاثية إلى المناطق الحدودية النائية، لذا تضطر هي بالبحث عن عناوينهم طلباً للمساعدة، وفي كثير من الأحيان لا تظفر إلا بوعود شفهية بالحصول عليها.
وتعطي البيانات الإحصائية المحلية مؤشراً واضحاً عن تنامي البطالة في قطاع غزة، حيث تظهر أن معدل البطالة من المشاركين في القوى العاملة في العام 2020 بلغ 47% في غزة، بمقابل 26% في الضفة الغربية.
وبالعودة إلى أمل، تلك الطفلة القمحية ذو الشعر المصفر، والتي كانت تقف جانباً تقضم أظافرها، طلبنا منها تصفح دفتر رسمها، فلم نجد رسمة واحدة تعبر عن مضمون مباشر، فهي من منظور شخصي أقرب لـ"الخربشات"، ولكن قد يكون لها تفسر أخر على المستوى النفسي.
خرجنا من الخيمة بعد سؤال أمل عن أمنياتها: فردت بتلقائية "نفسي يكون عنا دار علشان لما يجي الليل ما نخاف من الكلاب، ويكون فيها سرير ودفا كتير".