رغم توقف سقوط القذائف على غزة، فإن الحرب القائمة في داخل سعدية أحمد (43 عاماً) لم تنته إذ بدأت تعاني توتراً وقلقاً شديدين وارتجافاً متواصلاً في اليدين.
حاولت سعدية، وهي أم لستة أبناء، أن تتجاوز هذا القلق الناتج عن القصف المتواصل على القطاع عشرة أيام متتالية بأن تشغل نفسها في أعمال المنزل الواقع في غرب مدينة غزة، لكنها فشلت، واستسلمت إلى الهزل والبكاء الدائم والنوم.
حالةٌ طبيعية لربة منزل رأسمالها أطفالها، إذ كانت تخشى عليهم من القصف، وقضت معظم وقت الحرب متيقظةً غير أن العلاج الذي اهتدت إليه أسرتها ربما لم يكن "علمياً" من منظور الطب النفسي، لكنه مقبول على المستوى الشعبي.
"قطع الخوفة"، العلاج الشعبي الأول في التعامل مع الأزمات النفسية الناجمة عن الحرب في قطاع غزة، وهو الحل الذي لم يكن لدى سعدية بداً من اللجوء إليه برفقة شقيقتها.
استدلت سعيدية على عجوز سبعينية، وقد خضعت لتدليك قاسٍ بين يديها، باستخدام زيت الزيتون.
شرطان أساسيان للدخول إلى مسكن هذه العجوز المعالجة، الأول اصطحاب المريض قنينة صغيرة من زيت الزيتون، والثاني هو الالتزام بتكرار العملية ثلاثة أيام متواصلة.
وقد اضطرت سعدية للاستجابة إليها، والآن تقول إنها بدأت تشعر بتغير، وتحسن مزاجها، وعادت تنسجم مع محيطها.
يستسلم الناس في قطاع غزة، الذي شهد أربع حروب خلال عقد ونصف من الزمن، إلى هذا النوع من العلاج الشعبي في التعامل مع آثار الصدمات النفسية، خاصة عقب كل حرب، بصرف النظر عن فئاتهم العمرية، ومستوياتهم المعيشية.
ويقوم على هذه النوع من العلاج غالباً، أشخاص من كبار السن، يملكون قوى جسمانية، ويصفهم الناس بأن "في أيديهم البركة".
ولا ترتبط درجة استجابة الناس مع "قطع الخوفة"، بمستوياتهم العلمية إطلاقاً، لأن المسألة موروث اجتماعي قديم، لم تفلح كل عوامل التقدم العلمي في القضاء عليه.
سناء وجيه، ثلاثينية حاصلة على ماجستير في إدارة الأعمال، وتعمل في الحقل الأكاديمي، لم يمنعها ذلك من أن تكون واحدة من النساء اللواتي ورثن (قطع الخوفة) عن جداتهن.
تقول سناء باسمةً: "بعدما توقفت الحرب، أصبح بيتي مزاراً وربما كعيادة أطفال، يملؤه الصراخ، ولكن أكثر ما يجعلني سعيدة هو استجابة الأطفال السريعة للتعافي من الخوف الذي سكن قلوبهم طوال الحرب".
تضيف سناء التي تقطن جنوب مدينة غزة، لرصيف22: "ليس لدي يقين قطعي بأن ما أفعله غير مؤذٍ، لكني متأكدة أن جاراتي يفضلن المجيء بأطفالهن إلى هنا على زيارة الطبيب، وأنا في المقابل لا أحصل على أي أجر مادي، كله لله".
لا تجد الأكاديمية سناء مانعاً في ممارسة هذا النوع من العلاج الشعبي، وتقول إنها لم تبتكره إذ يُعمل به منذ عشرات السنوات، كما أخبرتها جدتها الثمانينية، قائلةً: "لقد ورثت قطع الخوفة عن جدتي، وبدأت تطبيقه على أطفالي الثلاثة عندما يشعرون بالخوف، فتتغير سلوكياتهم. تدريجياً أصبحت أقدمه خدمةً لأطفال جاراتي وأطفال الحي أيضاً ممن يعانون الفزع، والانطواء، والتبول اللاإرادي".
العلاج الشعبي ليس حكراً على النساء فقط، الرجال أيضاً لهم نصيب. إلا أن المسألة تبدو أكثر حساسية بالنسبة لهم، ففي مجتمع تطغى عليه عادات وتقاليد تضخّم صورة الرجل على حساب المرأة، ليس من المعقول أن يعبّر الذكور صراحة عن إصابتهم بالخوف والقلق.
من تحت ستار العادات، يتسلل الرجال المقتدرون إلى ما يعرف بمراكز "العلاج الطبيعي"، للحصول على جلسات للتدليك، بغية التخلص من أوجاع الشد العصبي، والقلق الدائم، والأرق، والكوابيس، فيما يذهب العامة إلى ما يعرف بـ"حمام السمرة" لاستعادة حيويتهم.
"حمام السمرة" هو حمام شعبي أثري قديم بقباب وجدران طينية، تُفتح أبوابه للرجال قبيل غروب الشمس بساعتين، وينزل إليه الناس عبر سلم رفيع.
أسفل القبو يتمدد الرجال تحت ضوء أصفر خافت، يحول أجسادهم إلى لون المعدن المصهور، ويتكاثف فوقهم بخار يكاد يحجب الرؤيا.
الولوج إليه يبدو أنه نهاية طريق الخوف بالنسبة إلى هؤلاء الرجال، الذين يتدافعون كل حسب ترتيبه وحجزه المسبق، نحو طاولة المدلك.
يغمر المدلك أطراف الرجال بالزيت العشبي، ويبدأ في سحب الأطراف من أعلى إلى أسفل ضاغطاً بإبهاميه. يأتي ذلك بعد الاستماع إلى سلسلة شكاوى وأعراض، تبدأ من الأرق والكوابيس، ولا تنتهي عند البعض بالشعور بالفزع، نتيجة مشاهد القتل التي عايشوها خلال الحرب.
يقول شاب في العشرين من عمره، كان جالساً على عتبة إسمنتية داخل الحمام في انتظار دوره: "كل غزة بحاجة إلى هذا العلاج، جميعنا مصابون بالخوف، لقد كانت الحرب الأخيرة من أكثر الحروب شراسة وبشاعةً وصوت القصف كان مروعاً".
يتهكم الشاب الذي فضل عدم ذكر اسمه، واكتفى بالقول إنه طالب جامعي، قائلاً: "نشرات الأخبار تقول دائماً إن عشرات الإسرائيليين قد أصيبوا بالهلع نتيجة صواريخ المقاومة، أما نحن فنتظاهر بالصمود واللا مبالاة، ونكتفي بحصر خسائر الأرواح والأضرار المادية فقط، وهذه هي الكارثة، أننا نخرج من كل حرب مصابين بالكثير من الاضطرابات ونكتفي بعلاجها بقطع الخوفة".
وأضاف: "لا أزال أشعر بأن الحرب لم تنتهِ، كل صوت يفزعني، وأشعر دائماً بالقلق، لذلك نصحتني أمي بالمجيء إلى هنا للحد من كل هذا الاضطراب، من خلال الخضوع لثلاث جلسات تدليك على مدى أيام، أبدأها اليوم".
"كل صوت يفزعني"، يتقاطع ما قاله الشاب الجامعي، مع كلمات رئيس قسم الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين في الإدارة العامة للصحة النفسية، إسماعيل أبو ركاب، الذي يقول: "من الطبيعي أن يخرج الناس من الحرب وهم يشعرون بالكثير من الأزمات النفسية، نتيجة الخوف، والقلق، وحجم المآسي التي يعايشونها، غير أن هناك الكثير من الطرق العلمية للتخلص من كل هذا، رغم أن الناس دائماً يفضلون الذهاب باتجاه الطب الشعبي".
وأضاف أبو ركاب: "الطب الشعبي من منظور الكثير من الناس أقل كلفةً، فضلاً عن أنهم يخشون من وصمة زيارة الطبيب النفسي وطلب مساعدته، ولهذا لا تزال تنتشر عادة قطع الخوفة، والذهاب إلى المشعوذين وغيرهم لمعالجة بعض المخاوف واضطرابات القلق الناتجة عن الحروب المتكررة".
وأشار إلى أن إيمان الناس بالاستشفاء بهذه الطريقة قادر على دفعهم باتجاه التعافي، وختم: "لكن ذلك ليس كافياً، ما لم يجر التدرب على سبل التفريغ النفسي، وتمارين الاسترخاء، وكذلك إخضاع الأطفال خاصة الذين يعانون التبول اللاإرادي للعلاج الطبي السليم".