يسأل شخص سوري الجنسية صديقه الفلسطيني: ماذا سيكون ردّ غسان كنفاني لو كان حياً؟ ماذا كان سيكتب حيال ما جرى في غزة؟
يقول الفلسطيني: في صبيحة اليوم التالي (18 أيار/مايو) قصفت إسرائيل مكتبة "سمير منصور"، فخرج لهم غسان من تحت الركام، ليخبرهم بأنه عائد إلى حيفا.
حقاً عنوان رواية "عائد إلى حيفا" كان الناجي الوحيد من بين مئة ألف عنوان، جميعها سقطت تحت الأنقاض بفعل القصف الإسرائيلي الذي استهدف مكتبة سمير منصور وسط مدينة غزة.
لا يملك سمير منصور الآن من مكتبته المكونة من طبقتين سوى تلك الرواية والمفتاح، كأثر لبناء ثقافي كان يشكل مزاراً يومياً للمئات من المثقفين والكتّاب والباحثين في قطاع غزة.
وأثار استهداف مكتبة منصور غضباً واسعاً على المستويين الشعبي والثقافي، محلياً وعربياً، كما شكّل حالة من التعاطف مع مالكها (سمير منصور) لِما لهذه المكتبة التي أسسها من إرث عميق في نفوس الكتّاب والمؤلفين والمؤسسات الفكرية والثقافية.
لعل هذا التعاطف شكّل حافزاً أمام منصور، الذي يتبوأ منصب نائب رئيس اتحاد الناشرين الفلسطينيين، لاستعادة طاقته وقدرته على إعادة إحياء هذه المكتبة مجدداً، كما قال.
وأكد منصور أن المسألة لم تكن سهلة "أن ترى حلماً عمره أكثر من أربعين عاماً يتهاوى أمام ناظريك في أقل من ثانية، لكن ما يعيننا على احتمال هذه الكارثة بحق الكتب وهذا المعلم الثقافي في غزة المحاصرة، هو حالة الالتفاف الفردي والمؤسساتي حولنا."
وأضاف الرجل صاحب الشعر الرمادي: "لا أنتمي إلى أيّ من الأحزاب السياسية، ويبدو واضحاً أن الاحتلال لم يستثنِ أحداً من الاستهداف، بما في ذلك الكتب، إذ إنني عايشت الانتفاضتين (1987-2000) وثلاث حروب متتالية، ولم يسبق أن تعرضت مكتبتي لأي عدوان مشابه، وهذا ما يؤكد أن هناك حرباً أُخرى على الثقافة."
هي مكتبة من دورين، تمتد بعناوينها من الدين والتاريخ والسياسة والشعر والأدب والدراسات إلى الذكاء الصناعي وعلم النفس والتنمية البشرية، ويقول منصور: "لقد كانت مكتبة شاملة تلائم كل الأذواق (..) وكانت كتب الترجمة واللغات هي الأكثر مبيعاً، ربما هي محاولة من القراء لتجاوز عائق اللغة ومخاطبة العالم بلغته، إننا شعب يستحق الحياة."
منصور (52 عاماً) قال إنه مذ كان في الرابعة عشرة من عمره بدأ العمل مع والده في المكتبة، وكانت تنمو وتكبر أمام عينيه، وكان حينها يشعر بالفخر بالتطور الذي تشهده المكتبة في حينه باحتوائها على المئات من العناوين. "كنت دائماً أراها تكبر وأكبر معها.. لقد نَمَت مثل واحد من أبنائي"، الكلام لمنصور.
سنة 2000 أخذ الرجل على عاتقه إنشاء دار نشر تحمل اسم المكتبة، واستمر في تطوير الفكرة إلى أن أصبحت أول دار نشر محلية تُعنى بطباعة الكتب ومشاركتها في معارض الكتاب في مختلف الدول، إلى أن جاءت الحرب ودمرت حلم حياته.
"لا شيء يمكن أن يفسر دوافع تدمير المكتبة"، يقول مالكها، ويتابع "اتصل الاحتلال بي وأخبرني بأنه ينوي قصفها، لكنه لم يمهلني لإخراج أيّ من الكتب أو الأوراق والمقتنيات المهمة، على الرغم من ذلك ذهبت مسرعاً ووقفت أنظر من بعيد وأنا منذهل أمام تحوّل المبنى إلى كتلة رماد، لقد شعرت حينها بأنني وحيد بلا عائلة ولا ملجأ.. أنا حقاً أشعر بالحزن العميق لأن المكتبة لم تكن فقط مكان عمل وإنما حياة أُخرى مفعمة بالحيوية والإبداع."
مجدداً عاد منصور إلى المكتبة لحظة بدء إزالة الأنقاض، ووقف يرمق أكوام الحجارة، محاولاً البحث عن أثر آخر غير "عائد إلى حيفا". لقد وجد مصحفاً كبير الحجم رفعه بيديه قائلاً: "ما ذنب مصحف الأقصى الذي كنت أطبعه ليحل به كل هذا الدمار!"
غصة في حلق منصور حيال ما جرى تعيقه عن مواصلة الحديث، فتتابع مسؤولة العلاقات العامة في دار نشر سمير منصور شيرين العكة قائلة: "إنها لم تكن مجرد مكتبة أو دار نشر، بل كانت قبلة الكتّاب والباحثين عن المعرفة."
الحياة داخل المكتبة كما تصفها شيرين كانت عبارة عن فضاء واسع يتجاوز كل حدود الحصار المفروض على قطاع غزة، وتقول "كنت أغذي صفحات المكتبة يومياً بمعلومات عن الكتب ومواقف وقصص لرواد المكتبة، وأغطي الفعاليات الثقافية وحفلات توقيع الكتب التي تصدر عنها، الدار شهادة ميلاد، كنا نعمل طوال الوقت ولا نشعر بكد أو ملل."
ترى شيرين الآن أن أصدقاء المكتبة أصبحوا كالنازحين بلا مأوى، وخصوصاً أنها (أي المكتبة) تتبنى نشر إصدارات الكتّاب الشباب ويصدر عنها أيضاً مصحف "المسجد الأقصى"، وتطبع العشرات من الكتب على نفقتها الخاصة وتشاركها في المعارض الدولية، "هذا كله زاد ثقة الكتاب وإيمانهم العظيم بها" كما قالت.
تشير مسؤولة العلاقات العامة في دار نشر سمير منصور إلى أن مالك المكتبة سيعيد بناءها مجدداً، ولن يتوقف عن مطاردة حلمه بأن تصبح هذه المكتبة منارة للعلم وسط عتمة الحصار والحرب التي تغرق فيها غزة."
بدورها عبّرت الكاتبة والناقدة هالة ضاهر عن حزنها على ما حلّ بالمكتبة من دمار وخراب قائلة: "نحن نشعر بالكثير من الامتنان لهذه المكتبة وبالحزن أيضاً، فهي الطائرة الوحيدة التي كانت تتجاوز الحصار، وتنقل أفكارنا وإبداعاتنا الأدبية إلى خارج غزة وتشاركها في معارض الكتب الدولية."
وأضافت ضاهر "ربما ما يخفف من وطأة الحزن على دمار المكتبة، هو رمزية إعادة فتح مكتبة جديدة تحمل نفس الاسم في حي الشيخ جرّاح في القدس، فهذا هو التعبير الحقيقي عن التلاحم الوطني والثقافي، ويدلل على أن محاولات الاحتلال طمس الهوية والفكر والثقافة لن تنجح."
وهنأت الشعب الفلسطيني بهذا التلاحم والإسناد قائلة:"حاولوا تدمير مكتبة سمير منصور في غزة، فباغتهم فرع جديد في القدس العظيمة، هنيئاً لنا بهذا الجمال والحب والتضامن والتلاحم"، مشددة على أن هذا الفعل يؤكد أن القراءة تصنع الفرق وتقتل المسافات بين الجغرافيا التي قسّمها الاحتلال.
تزامناً مع قصف المكتبة، افتتح نشطاء مقدسيون في حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة مكتبة باسم "مكتبة سمير منصور"، وفاءً لأهالي غزة، ولتسليط الضوء على جرائم الاحتلال التي تستهدف حتى المنشآت الثقافية. كما أُعلن عن تبرعات بكتب للمكتبتين في غزة والشيخ جرّاح، ومن بين المتبرعين مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تبرعت بنسخ من كافة كتبها للمكتبتين.
وعن هذا الفعل، قال سمير منصور: "أقف عاجزاً عن التعبير أمام هذه المساندة والدعم من أبناء حي الشيخ جرّاح، الذين أكدوا أن أرادتنا عصية على الانكسار، وأن الثقافة هي مصدر قوتنا في مواجهة الاحتلال."
وأضاف منصور: "إنشاء المكتبة في القدس يحمل الكثير من الدلالات الرمزية على أنه يصعب النيل من عزيمتنا، وهو تعبير واضح عن وحدة الدم والثقافة، وأن المكتبة الفلسطينية ما هي إلّا رسائل الوحدة والسلام، وسنبقى حريصين على استمرار هذه الرسائل، وسنبقى بجهود أهل القدس والشيخ جرّاح حراساً للثقافة."
أمّا عن جهود المؤسسات الثقافية الداعمة لإعادة إحياء المكتبة فقال: "نحن واثقون بأن المكتبة ستعود مجدداً بفضل دعم وجهود المؤسسات المحلية والعربية الداعمة، سواء بالكتب أو بالتبرع لإعادة إنشائها، ولولا هذا الدعم والمساندة لما استطعنا تجاوُز هذه المحنة.. ونعدكم بأن تظل المكتبة سبيلنا نحو السلام والحرية."