يجتمع الأربعيني أبو محمد مع عدد من أبنائه فوق تلة رملية بمنطقة خالية غرب خانيونس، يغربل الرمال بحثا عن الحصى، والعرق يتصبب من جبينه القمحي تحت وقدة الشمس، بينما يمسك الأبناء أكياسا مهترئة من النايلون يحشونها بحبات الحصى، تمهيدا لنقلها للتجار الذي يتوافدون لشرائها بأسعار زهيدة.
يقول أبو محمد: "نأتي في ساعات مبكرة لجمع الحصى ونستمر حتى ساعات المساء، وذلك بغية تحقيق ما يعينني على قضاء حاجة أسرتي"، مؤكدا أن جمع الحصى بات مهنة من لا مهنة له في قطاع غزة المحاصر منذ عدة 14 عاماً.
ولا تبدو هذه المحاولة الفردية الوحيدة للدفع بعجلة البناء في القطاع المدمر بفعل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة (10-20 مايو)، إذ ابتدع المئات من المواطنين طرقا للتغلب على نقص المواد الخام التي تمنع إسرائيل إدخالها عبر المعابر التجارية.
ومن الناحية الفعلية، لا توجد إلى الآن بوادر حقيقية لإعادة إعمار قطاع غزة، الأمر الذي دفع الكثير من المواطنين للاجتهاد في البدء بترميم محلاتهم التجارية وبيوتهم. وعمد العشرات من السكان إلى جمع ركام البيوت المدمرة والعمل على استخراج الحديد وتفتيت الأسمنت المسلح، لاستخدامه في البناء مجددا.
ويستريح الشاب عصام نصير بجانب كومة حديد أشبه بشبكة العنكبوت، كان يستخرج منها قضبانا ملتوية بأحجام وأطوال مختلفة، ويطرق عليها بشاكوشه الثقيل لتعديلها، ومن ثم تجهيزها للبيع.
ويقول العشريني نصير: "يستغرق تعديل الطن الواحد من الحديد أسبوعا كاملا، ويبدأ العمل من ساعات النهار الأولى، حتى المساء، مقابل أجر مادي زهيد".
ويكابد العامل مشقة وعناء كبيرين، شأنه في ذلك شأن عدد من العمال يشاركونه العمل في تعديل القضبان الحديدية المستخدمة في تكوين الخرسانة المسلحة، ويقول: "ليس أمامنا من بديل.. نعمل لتوفير لقمة العيش المفقودة في ظل البطالة".
وقبل اندلاع الحرب على القطاع كان يصل ثمن طن الحديد المسلح حوالي 2650 شيكل، فيما تضاعف الآن ليصل إلى نحو 4000 شيكل، وفق تقديرات التجارة.
ولم يكن الطفل عصام احمد، في الخامسة عشرة من عمره، بأحسن حالا من سابقه، حيث يجر عربته بحثا عن قطع إسمنتية وأحجار متراكمة بين الأزقة والطرقات، لبيعها للمعامل التي تعمل على إعادة تدويرها.
ويسير الطفل احمد ونظراته لا تنفك عن النظر يمينا ويسارا بحثا عن قطع الركام المتناثرة هنا وهناك، ويقول: "أبي توفي قبل عامين، ولا معيل لأسرتي، لذلك أضطر للبحث عن لقمة العيش أينما وجدت، لمساعدة أمي وأشقائي".
وبمجرد دخول الطفل أحمد بعربته إلى معمل الحجارة الأسمنتية، يتوافد العمال لمساعدته في تفريغ حمولته من الركام، وثمة ابتسامة ترتسم على وجهه حينما يتقاضى عشرة شواقل تعينه على جلب "الطعام" لأسرته.
وكانت تقديرات المؤسسات الإنسانية والإحصائية العاملة في الأراضي الفلسطينية قد أشارت إلى وقوع أكثر من 53% من سكان غزة تحت خط الفق، ناهيك عن معدلات البطالة التي تجاوزت 48%.
ويشهد القطاع المحاصر زيادة مستمرة بمعدلات الفقر منذ عام 2016 حيث يعيش قرابة 53% في غزة تحت خط الفقر بحسب البنك الدولي والأرقام مرجحة للازدياد في ظل سوء الأوضاع الاقتصادية، ويعتمد الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام على الدعم الخارجي لسد عجز الميزانية في حين خصصت السلطة الفلسطينية ما قيمته 1.4 مليار دولار من موازنتها لعام 2021 لقطاع غزة بنسبة تصل إلى 25%.
القطاع المنهك لم يسلم أيضا من تداعيات جائحة كورونا، فأعباء القطاع الصحي ازدادت مع تسارع إصابات كورونا حيث وصل إجمالي الإصابات بكوفيد-19 إلى نحو 106 ألف حالة بحسب وزارة الصحة الفلسطينية موزعة فقط على 3 مستشفيات للتعامل معها.
ولعل القطاع لن يكتب له التعافي في أي وقت قريب، فلم يسلم مؤخرا من الخسائر الفادحة البشرية والمالية جراء التصعيد الأخير مع إسرائيل والذي قدرت خسائره بـ 244 مليون دولار حتى 18 من مايو بحسب المكتب الإعلامي الحكومي.
وتبحث غزة في كل يوم عن طريقة لالتقاط أنفاسها في داخل نفق مظلم على الرغم مع نجاحها بالنجاة خلال الـ 14 عاما الماضية.. فهل ما زالت غزة قادرة على الاستمرار؟