عادت أميرة صالح برفقة أطفالها الثلاثة إلى مسكنها الواقع شمال قطاع غزة، بعد نزوح دام سبعة أيام بفعل الحرب، فوجدَته أثراً بعد عين.
جثمت وأطفالها، الذين يبلغ أصغرهم سبعة أعوام، فوق ركام المسكن، تضرب كفّاً بكف، وتقول: "لم ينجُ من مستقبل أطفالي التعليمي سوى هذا الجهاز اللوحي، الذي يشكّل مصدرهم الوحيد للتعلُّم عن بعد، بعد إغلاق المدارس وانتشار جائحة كورونا... لقد ذهبتْ كتبهم وحقائبهم المدرسية هباءً منثوراً تحت الأنقاض!".
بعد ثلاثة أيام تقريباً من البحث عن مسكن بديل، استقرّت أميرة، وهي موظفة في القطاع الخاص، في مسكن بالإيجار، وقد بدأت تطلب من أطفالها استلاف كتب أطفال الجيران، لأجل تعويض واستكمال التعلُّم عن بعد.
وعلى رغم وقع الصدمة على نفوس الأطفال الثلاثة، إلّا أنّهم مضطرّون إلى مواصلة تعليمهم، تقول الأم. ولا تجد مناصاً من أن تعود إلى معاناة ملاحقة حلّ الواجبات وتسجيل الفيديوات الخاصّة بالأطفال، ونقْلها عبر "واتسآب" إلى المجموعات التعليمية الخاصة بمدرسة كلّ واحد منهم.
تستذكر أميرة: "منذ أن تفشّت جائحة كورونا ونحن نعاني من رداءة التعليم، وقد جاءت الحرب لتزيد الطين بلّة... كنّا نتوقّع أن تحذو الأونروا حذو المدارس الحكومية في إنهاء الفصل الدراسي، وخصوصاً أن الأطفال في حاجة إلى التعافي من الصدمة التي حلّت بنا، لكن واضح أن هناك تضارباً في إدارة التعليم في هذا القطاع المدمّر على مختلف المستويات".
الحرب على قطاع غزة، تركت 77 مقعداً تعليمياً شاغراً ــــ عدد الطلبة الذين قتلتهم إسرائيل ــــ في مختلف المراحل التعليمية. كذلك، دمّرت 132 مدرسة و55 روضة أطفال. لذا، كان واضحاً أن التعليم لم يسلَم من الضربات الإسرائيلية الجوية، وكأن المدارس كانت جزءاً من خطّة الحرب.
على أثر هذا الدمار، المترافق مع انتشار جائحة "كورونا"، وما خلّفته من أثر سلبي على جودة التعليم في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزة الذي تعتمد فيه المدارس على تطبيق "واتسآب" كوسيلة لنقل المعلومات من الطاقم التعليمي إلى الطلبة، قرّرت وزارة التربية والتعليم إنهاء الفصل الدراسي الحالي.
تقول المعلمة أمل عبد العزيز، وهي إحدى موظّفات قطاع التعليم في "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين" (أونروا)، إنّ محاولة استكمال الفصل التعليمي الحالي، الذي من المفترض أنّه شارف على الانتهاء، تعتبر خطأ كبيراً اقترفته إدارة "الأونروا"، على اعتبار أنّ أطفال غزة يواجهون ظروفاً نفسية قاهرة قد لا تمكّنهم من تجاوز هذه المحنة بسهولة.
وتضيف: "بدأنا نلمس هذا الأمر من خلال تدنّي مستوى استجابة الطلبة وتفاعلهم مع التعليم الإلكتروني القائم الآن".
المعلمة أمل تؤكّد أنه "صحيحٌ أنّنا حريصون على مستقبل أطفالنا، لكنّنا في الوقت ذاته بحاجة إلى بعض الوقت للتعافي، وخصوصاً الأطفال الذين يعانون من آثار الصدمة"، مشيرة إلى أن "قرار وزارة التعليم كان صائباً جداً في إنهاء الفصل الدراسي".
في غضون ذلك، لا تزال وسائل التعلُّم عن بعد تثير استياء الطلبة وأولياء الأمور على حدّ سواء، نتيجة النقص الحاد في الإمكانات اللازمة لاستمرار هذه العملية، إذ خلّفت الحرب انقطاعاً مستمرّاً للتيار الكهربائي، وكذلك خطوط الإنترنت. ويشكّل انقطاع التيار الكهربائي، لأكثر من 20 ساعة يومياً، إلى جانب رداءة خدمة الإنترنت، تحدّياً أمام التعليم عن بعد في قطاع غزة، فضلاً عن التحدّي الأكبر المتمثّل في تدمير عدد كبير من المدارس.
عائلة مطر، مثلاً، تنظّم جدولاً زمنياً لحلّ واجبات أبنائها إلكترونياً، عبر جهاز لوحي متهالك. وعلى رغم ذلك، يحصل نزاع على وقت الشاشة الثمين، خلال ساعات وصل الكهرباء (3-4 ساعات).
محمد (8 سنوات) يقول: "ثلاثتنا ننتظر حتى تعود الكهرباء، لنتمكّن من إعادة شحن الهواتف، ومن ثم إرسال الواجبات عبر الإنترنت، وتنزيل الواجبات الجديدة، وهذا يعتمد على مدى ضعف أو قوة الإشارة".
أمّا الأم فتقول: "يحصل نزاع بين أبنائي نتيجة عدم القدرة على توفير وقت متساوٍ"، مضيفة إن "تقليص الكهرباء إلى هذا الحدّ ضاعف العبء الدراسي وراكم حلّ الواجبات".
لم تستجب إسرائيل، للمرّة الرابعة على التوالي في حروبها على قطاع غزة، للمطالبات الدولية بضرورة تحييد قطاع التعليم عن الصراع مع الفلسطينيين. ويقول أحمد النجار، مدير العلاقات في وزارة التربية والتعليم، إن "حجم الدمار الذي لحق بالمؤسسات التابعة للوزارة هائل وكبير جداً"، متهماً إسرائيل باستهداف هذه المؤسسات، التي تقع في مناطق بعيدة عن المراكز الأمنية أو التابعة للمقاومة، "بشكل مباشر ومتعمَّد".
ويؤكّد النجار، في تصريح صحافي، أنّ طلبة المدارس باتوا بحاجة إلى تدخّل نفسي جرّاء الآثار والمخاوف التي أصابتهم خلال العدوان. ويقول إن "عملية إعمار المدارس ممكنة نسبياً، لكن يبقى التحدّي الحقيقي هو ترميم نفسيات الطلبة الذين نجوا من مجازر، أو كانوا تحت القصف وعايشوا هذا العدوان".