في أثناء وقوفه على الإشارة الضوئية وسط مدينة غزة سحب سائق أجرة نفساً عميقاً من سيجارته ونفثه في الهواء، ثم رفع صوت المذياع وهو يصدح بأغنية "عمّرها بإيدين تعلي بسواعد بالمجد وبالقصد المارد.. عمّرها تضحك بيادرها". أخرج يده من الشباك وابتسم مفاخراً بنشوة نصرٍ لكاميرا فيديو كانت توثق الحياة اليومية على بعد مترين تقريباً.
استاء الركاب في الخلف من علو الصوت. شابة عشرينية لا ترتدي كمامة تحدثت بنزق "اخفضه قليلاً.. ما زال الصوت العالي يفزعنا"، في إشارة إلى صوت القصف.
وبين مَن يرى في النجاة انتصاراً ومَن لا يزال واقعاً تحت تأثير صدمة الحرب، عادت غزة إلى تفاصيل حياتها اليومية بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على دخول التهدئة في حيز التنفيذ بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل في 21 أيار/ مايو.
فجأة عاد الصخب إلى غزة. تنافست أبواق السيارات بحثاً عن الركاب، وافترش الباعة أرصفة الطرقات. لا شواغر في المقاهي والمطاعم، ورؤوس مصطافين تغطي شاطئ البحر. لا ندري ربما هي فرحة النجاة!
تلك غزة بتفاصيلها المتناقضة، وحكاياتها التي لا تنتهي، وروايات الحب والحرب. قطاع لا تتجاوز مساحته 360 كيلومتراً مربعاً يعيش فيه أكثر من مليونيْ مواطن، جميعهم قضوا 11 ليلة تحت وطأة قصف الطيران والمدافع الإسرائيلية المتمركزة على حدود غزة البرية والبحرية.
ليل قاس وحرب مدمرة ومشاهد مروعة للشهداء الذين بلغ عددهم ٢٤٨ شهيداً، بينهم 66 طفلاً. جميعها صور جثمت على صدور السكان، غير أنهم خرجوا بعد ساعات قليلة لاستعادة حياتهم اليومية.
يحمل أحمد ماضي باقة من البالونات المزركشة وسط حي الرمال في مدينة غزة (أكثر الأحياء حيوية)، جاء بها منتقلاً من مخيم الشاطئ غربي المدينة لبيعها هنا للأطفال الذين يرافقون آباءهم وأمهاتهم. يقول أحمد إنه عاد إلى ممارسة عمله في بيع البالونات صباح اليوم التالي لإعلان التهدئة، وأنه لا مناص أمامه من استعادة عمله على الرغم من أنه ما زال يشعر بالخوف من تجدد الحرب.
يبتسم أحمد لطفلة صغيرة مرت بالجوار أعطاها بالوناً يوازيها حجماً، فقالت الأم بخجل شديد "معيش أدفع". فردّ البائع "اعتبريه هدية النجاة من الحرب"، ولف ظهره ومضى بحثاً عن زبون.
تسامُح يكشف في حقيقته قدرة الناس هنا في غزة- التي تعاني تضخماً في نسبتيْ الفقر والبطالة بفعل الحصار وتداعيات انتشار جائحة كورونا، ومؤخراً الحرب- على التعامل والتأقلم مع مختلف الظروف.
غرباً، وتحديداً على كورنيش غزة الذي لم يسلم من القصف إلى جانب تدمير أكثر من 1800 وحدة سكنية وبنى تحتية أيضاً، يمارس الشباب تفاصيلهم اليومية المعتادة. جلسات سمر مسائية على أنغام كوكب الشرق (أم كلثوم) وسهرات فوق أراجيح خشبية بالية تستمر حتى ساعات الفجر الأولى. قبل ثلاثة أيام من إعلان التهدئة لم يكن باستطاعة أحد الجلوس هنا بفعل الضربات الجوية المفزعة، صورتان متناقضتان تماماً.
تحمل مجموعة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 15 و20 عاماً مكبر صوت يصدح بالأغنية الشهيرة للمغني الفلسطيني محمد عساف "علّي الكوفية علّي ولولح فيها"، يرددونهاهتافاً وهم يسيرون جنوباً.
يعلّق شاب كان يجلس تحت مظلة كُتب عليها "لا للمستحيل" تطل على الشاطئ مباشرة، "هذا الشعب ملوش حل.. كيف ستستطيع إسرائيل القضاء على هذه الروح؟"، في إشارة إلى قدرة الناس على الصمود والتحدي.
بالتوازي، كانت روائح الكعك تنبعث من نوافذ بعض البنايات التي لم تُصب بأذى، كأنها محاولة لاستعادة أجواء عيد الفطر التي قضت عليها الحرب. لذا لم يكن غريباً مشهد بعض النسوة اللواتي ألبسن أطفالهن ملابس جديدة وذهبن بهم إلى المتنزهات ومراكز الترفيه في اليوم الأول لإعلان الهدنة التي تم التوصل إليها بوساطة مصرية- قطرية وبدعم أميركي.
تقف شابة في حديقة "البلدية" وسط مدينة غزة تلتقط صورة سيلفي لها ولمجموعة صديقات أُخريات يقفن في الخلف ويرفعن إشارة النصر. إحداهن قالت: "مخطئ مَن يعتقد أننا لا نخاف.. نحن هنا لنتجاوز محنة الحرب، لقد تركنا الخوف والقلق والدمار خلف أسوار الحديقة ودخلنا إلى هنا حتى نستعيد طاقتنا".
خلف أسوار الحديقة أيضاً وعلى بعد مئتيْ متر تقريباً يقع سوق عمر المختار، الذي عاد يضج بالحيوية بعد أيام من انقطاع أقدام المواطنين والباعة على حد سواء بفعل القصف الذي ألحق بمصانع ومراكز ومحال تجارية خسائر اقتصادية تزيد عن 40 مليون دولار، وفق تقديرات محلية.
تجوب شارع السوق مئات الزبائن، وتتزاحم في وسطه السيارات. طفلان صغيران على الناصية أحدهما يبيع النعناع والآخر يبيع الكعك، يقولان إنهما اضطرا إلى النزوح عن مسكنهما في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة في أثناء العدوان بفعل الصواريخ، وأقاما برفقة أسرتهما بداخل إحدى مدارس الإيواء التابعة للأونروا غربي المدينة من دون أغطية أو مقومات أساسية للحياة.
بعد سبعة أيام من النزوح عاد الطفلان إلى مسكنهما الذي لم يُصب بأذى، وفي صبيحة اليوم الثاني قررا النزول للعمل. قرار كانا مرغَمان عليه، إذ يقول أحدهما "إذا اشتغلنا أكلنا، وإذا لم نعمل فسنموت من الجوع".
ما قاله الطفل يمثل رسالة غزة التي ما فتئت تقاتل وتحلم من أجل الحصول على حياة، وكما يقول درويش "لم نحلم بأشياء عصية نحن أحياء وباقون.. وللحلم بقية".