مكتبات غزّة... أجنحة الحالمين المتكسّرة

مكتبات غزّة... أجنحة الحالمين المتكسّرة

قبل يوم واحد من بدء الحرب على غزة، كان يمكن للمارّة أن يستدلّوا على موقع جامعات القطاع بإحدى طريقتَين: استطلاع العناوين فوق اللافتات، أو بسلسلة المكتبات الممتدّة على ما يزيد عن 300 متر تقريباً. الآن، لم يعد لهذه المكتبات من أثر سوى بعض الأوراق التي ترزح تحت الأنقاض.

الوجه الثقافي الجميل لهذا المكان الذي يستوطنه ما يزيد عن عشر مكتبات ثقافية ودور نشر، بالقرب من مفرق الجامعات وسط المدينة، قد تشوّه، في محاولة إسرائيلية لتجريد القطاع المحاصَر من معالمه العلمية والفكرية والثقافية.

منذ اليوم الأول لاستهداف مبنى يشتمل على مراكز تعليمية وتقام أسفله مكتبة كبيرة معروفة باسم «اقرأ»، جلس شعبان سليم، وهو مالك المكتبة، متشنّجاً من هول ما رأى. «تخيّل أن تُراقب أحلامك وهي مقطّعة إلى أشلاء ولا يمكنك فعل أيّ شيء!»، يقول.

يدسّ شعبان يده أسفل الركام محاولاً إنقاذ كتاب، وباليد الأخرى، أخذ يمسح غبار الحرب عن وجهه. إنه «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني. «حتى الكتاب يرفض أن يموت تحت جبروت الاحتلال وقسوته، الثقافة هي الشيء الوحيد القادر على خلق جيل واعٍ بحقوقه»، القول لسليم.

 

حتى وقت قصير، كانت هذه المكتبة تُشكّل مزاراً يومياً للطلبة والباحثين عن المعرفة بين الأوراق والمؤلّفات الفكرية والعلمية والأدبية، غير أنها تحوّلت اليوم إلى كومة دمار.

على أنقاض المكتبة، وقف شعبان يقول: «كان لديّ حلم أن تكون لديّ مكتبة خاصة، وعملْت لسنوات من أجل هذا الحلم... فتحتُها متحمّساً باتّجاه دفع الناس إلى التثقيف والاسترزاق في آن واحد، غير أن الحلم انهار تحت أنقاض المبنى الذي دمّرته إسرائيل من دون سبب». تدمع عيناه وهو يضيف: «تخيّل كم هو مؤلم أن تُوفّر كلّ دولار لبناء شيء، ثمّ تفقد ما ادّخرت في لحظة واحدة».

أمّا مكتبة سمير منصور، التي يفوق عمرها 30 عاماً وتحتوي على ما يزيد عن 100 ألف عنوان، فقد صارت هي الأخرى أثراً بعد عين بفعل العدوان.

الكاتبة فتحية صرصور واحدة من الذين أودعوا كتبهم لدى دار منصور في انتظار الانتهاء من صفّه وطباعته. ومع اندلاع الحرب، كانت قد فقدت الأمل بخروج الكتاب إلى النور.

تقول فتحية: «جئنا بعد انتهاء الحرب لمؤازرة سمير منصور جرّاء تدمير مكتبته ودار النشر، وإذ به يُسلّمني النسخة الأولى من كتابي المتعلّق بالألعاب الشعبية الفلسطينية قائلاً لي: تفضّلي، هذه النسخة التي نجت قبل القصف بساعات... هذا الوليد الأدبي الوحيد الذي خرج من رحم المكتبة قبل القصف بقليل».

وتضيف: «لم أستطع أن أقتنص بسمة اغتباطي بمولودي الجديد لأن هناك الكثير من دموع الألم، غير أن ما حدث رسالة بأننا باقون، وسنعيد إحياء المكتبات كتاباً تلو آخر وحرفاً تلو حرف».

وبينما ندّدت وزارة الثقافة الفلسطينية باستهداف الاحتلال للمؤسّسات والمقرّات الثقافية والتعليمية والصحافية خلال عدوانه، قال الأمين العام لـ«الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين»، الشاعر مراد السوداني، إن «هذا العدوان امتدّ ليطاول كلّ مكوّنات الحياة الفلسطينية، باستهداف للوعي وللذاكرة وللتاريخ وللواقع الذي حوّله إلى شظايا».

وأضاف السوداني: «المكتبات لم تَسلم من هذا الاستهداف في محاولة لاستباحة الوعي الجماعي الفلسطيني، عبر استباحة ذاكرة الشعب الفلسطيني وأرشيفه، واستهداف مكتبة منصور وغيرها، وهي المكتبة التي تضمّ أكثر من 100 ألف كتاب، وتُعدّ من أكبر المكتبات ودور النشر في غزة، وتكاد تكون المتنفّس الوحيد للكتّاب والأدباء الفلسطينيين».