واحدة من تداعيات الحرب: الصحة الجسدية تتهاوى 

واحدة من تداعيات الحرب: الصحة الجسدية تتهاوى 

مرّت أيام قليلة على توقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن الأثر الكارثي الذي خلّفته على صحة السكان لا يزال مستمرًا. وبفعل الهجمات الإسرائيلية المتواصلة لمدة 15 شهرًا، تحولت المرافق الطبية والمستشفيات إلى بيوت أشباح، فيما شهدت البنية التحتية دماراً هائلاً يصعب التخلص منه لسنوات قادمة.

القصف والدمار لم يكن السبب الوحيد لتدهور الأوضاع الصحية؛ بل كان التجويع القسري جزءًا رئيسيًا من هذه المعاناة. فقد فرضت إسرائيل حصارًا مشددًا على غزة ومنعت دخول المساعدات الإنسانية والمواد التموينية، ما تسبب في تفشي سوء التغذية بشكل غير مسبوق أدى إلى استشهاد (44) شخصًا بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء وسياسة التجويع.

قدّرت مراكز إحصائية أن نسبة الفقر في غزة وصلت إلى 100%، مع انعدام الأمن الغذائي بنسبة 96%. يعاني أكثر من 80% من العائلات من عدم القدرة على تأمين احتياجاتها الغذائية، فيما يعاني الأطفال بشكل خاص من ارتفاع معدلات فقر الدم والأمراض المرتبطة بالتغذية.

لم يكن تأثير التجويع قسريًا على صحتهم الجسدية فقط؛ بل امتد ليشمل تدّاعيات نفسية خطيرة خاصة على الأطفال، في هذه الظروف القاسية، أصبح الحفاظ على الصحة أمرًا بالغ الصعوبة، إذ يجد الناس أنفسهم في مواجهة مستمرة مع الفقر والأمراض.

عادل جبر، طفل في الثانية عشرة من عمره، يقطن في حيّ التفاح شرق مدينة غزة، يُعاني شلل دماغي منذ ولادته؛ مما جعله بحاجة إلى رعاية طبيّة خاصة طوال حياته. إلا أن الحرب الأخيرة على غزة جعلت من حياته أكثر قسوة، حيث تعرض منزلهم للقصف والتدمير، مما اضطر العائلة للنزوح باتجاه الخيام جنوب قطاع غزة التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة وأشكال الرعاية الصحيّة بالطبع؛ مما زاد من معاناته.

مع الحصار والتجويع القسري، لم تتمكن الأسرة من الحصول على الغذاء الكافي أو الأدوية اللازمة لعلاج عادل، تقول والدته: "بسبب نقص الغذاء، بدأ عادل يفقد وزنه بشكلٍ ملحوظ، وأصبح يعاني ضعف عام في جسده، وتدهورت حالته الصحية؛ مما زاد من الألم في مفاصله نتيجة نقص التغذية والعلاج".

لم يكن الجوع هو التحدي الوحيد الذي واجه عادل؛ بل كانت الظروف المعيشية الصعبة في خيم النزوح وغياب المياه النظيفة تزيد من معاناته، وهو ما أدى إلى تفاقم حالته الصحية بشكلٍ غير مسبوق؛ ومثل عادل الكثير من الأطفال والفئات الهشة الأخرى في غزة الذين يعانون من تدّاعيات الحرب والحصار، وهم في أمس الحاجة إلى الدعم الطبي والغذائي.

تكشف تقارير إحصائية للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أنّ (3,500) طفل معرّضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء، فيما يوجد (12,700) جريح بحاجة للسفر للعلاج في الخارج، ومثلهم تقريبًا (12,500) مريض سرطان يواجهون الموت وبحاجة للعلاج.

بالإضافة إلى ذلك، هناك (3,000) مريض بأمراضٍ مختلفة في قطاع غزة يحتاجون للعلاج في الخارج، وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية فإنّ هناك (2,136,026) حالة أُصيبت بأمراض معدية نتيجة النزوح؛ ما يعني الغالبية الساحقة من سكان القطاع، فيما أصيبت (71,338) حالة بعدوى التهابات الكبد الوبائي لنفس السبب.

وربما أكثر ما يُفسر انتشار الأمراض المُعدّية هو أزمة المياه والصرف الصحي التي يعاني من سكان قطاع غزة جرّاء الحرب، إذ تعرضت العديد من شبكات المياه والصرف الصحي للتدمير خلال الحرب، ما تسبب في انقطاع المياه الصالحة للشرب وارتفاع معدلات التلوث. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، يعاني حوالي 80% من السكان في غزة من نقص حادّ في المياه، ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المعوية والجلدية.

وعلى الرغم من إعلان التهدئة بين الأطراف المتنازعة في قطاع غزة، فإنّه ما يزال هناك️ (60,000) سيدة حامل تقريباً مُعرَّضة للخطر لانعدام الرعاية الصحية، وكذلك هناك (350,000) مريض مزمن في خطر بسبب منع الاحتلال إدخال الأدوية.

وتشير هذه الإحصاءات إلى مدى تفاقم الأوضاع الصحية في قطاع غزة بعد الحرب، خاصّة بعدما خرجت معظم مستشفيات قطاع غزة عن الخدمة خلال الحرب ثم عادت بعضها للعمل وبعضها لم يتمكن من ذلك.

في السياق، أكّد الطبيب فضل نعيم مدير مستشفى الأهلي العربي المعمداني بمدينة غزة، حجم المعاناة الشديدة التي يُعاني منها السكان، خصوصًا الفئات الهشة مثل الأطفال والمرضى، إذ تشير الأرقام التأثير الكارثي للحصار والدمار الناتج عن الحرب، وتوضح التحدّيات الكبرى التي تواجه النظام الصحي في قطاع غزة.

وقال نعيم إنّ المستشفى المعمداني ظلّ حتى يوم إعلان التهدئة يقدم خدماته للجرحى والمرضى، وكان في الفترة الأخيرة هو المشفى الوحيد الذي يقدم الرعاية الطبية المتكاملة للأهالي المتبقين في شمالي القطاع.

وعانى المستشفى الكثير من الأزمات جرّاء الحرب، لا سيما الاستهداف المباشر عدّة مرات، ونفاد الوقود الذي هدد مرارًا خروج المستشفى عن الخدمة بالكامل. بحسب نعيم الذي أشار إلى أنّ الاحتلال دمر المنظومة الصحيّة في شمالي القطاع، مشيرًا إلى حاجة آلاف المرضى الماسة بداخل المستشفى للعلاج والعمليات الجراحية الكبيرة والمعقدة.

آمنة ابراهيم، امرأة ستينية تقيم في شمال قطاع غزة، مصابة بمرض ارتفاع ضغط الدم، وعايشت ظروف صحيّة صعبة بفعل الحرب، تقول: "أنا مريضة وأحتاج إلى رعاية مستمرة وأدوية مزمنة، لكن بسبب الحرب حرمت من تناول أدويتي وتعرضت لانتكاسات صحيّة شديدة ونزل وزني أكثر من 10 كيلوات".

وإلى جانب تدهور صحتها إلا أنّ الحاجة آمنة لا تُخفي حزنها الشديد على حفيدها الرضيع الذي لقي حتفه نتيجة سوء التغذية التي عانى منها لأسابيعٍ طويلة، حتى فارق الحياة، في ظروف كانوا ينزحون فيها تحت وابل من القصف والتهديد الأمني الخطير وانعدام سبل السلامة مع، تشديد الحصار والمجاعة التي عانوا منهم مع أكثر 750 ألف فلسطيني في النصف الأول من العام الماضي، في شمال قطاع غزة، فيما استمرت تدّاعياتها لما بعد توقف إطلاق النار في التاسع عشر من  يناير 2025. 

هذه الشهادة ليست استثنائية في غزة؛ بل هي جزء من واقع يومي يعيشه مئات الآلاف من العائلات، وتتزايد حالات سوء التغذية بين الأطفال في القطاع، وهو ما يشكل تهديدًا خطيرًا للصحة العامة على المدى الطويل، وحسب تقرير صادر عن اليونيسيف، يعاني 60% من الأطفال في غزة من فقر الدم بسبب نقص الحديد، ما يؤدي إلى ضعف المناعة وزيادة خطر الإصابة بالأمراض.

من جهة أخرى، لا تقتصر الأزمة الصحيّة في غزة على الجروح والأمراض الجسدية فحسب؛ بل تشمل أيضًا الصحة النفسية، إذ أظهرت دراسة محليّة أن أكثر من 40% من السكان يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق نتيجة للضغوط الناجمة عن الحرب.

في هذا السياق، يتحدث المختص النفسي مصطفى كلاب، عن التأثير النفسي لهذه الحرب على الأفراد قائلاً: "الضغط النفسي الناجم عن العيش في بيئة حرب يعزز من حالات الإصابة بالأمراض الجسدية، إذ يزيد من احتمالية الإصابة بأمراض القلب والسكري وارتفاع ضغط الدم. كما أن القلق المستمر يجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المعدية."

كما يضيف كُلاب أن العديد من العائلات في قطاع غزة تفتقر إلى الدعم النفسي الكافي، لا سيما الفئات الأكثر عرضة للتأثيرات كالصحفيين والعاملين في المجال الصحي والفئات الهشة كالمرأة والأطفال وذوي الإعاقة وغيرهم، وهو ما يؤدي إلى تراكم التوترات والضغوط التي تؤثر على الصحة العامة.

على الرغم من كل هذه التحديات، تشير المبادرات المجتمعية والتعاون بين المنظمات المحلية والدولية إلى إمكانية تخفيف حدة الأزمة من خلال تقديم الدعم النفسي والطبي والغذائي، الذي قد يعمل على تحسين الوضع الصحي بشكل تدريجي.

ويُؤكد كُلاب على أن التركيز يجب أن يكون على توفير الأدوية الأساسية، وتجديد البنية التحتية للمرافق الصحية، بالإضافة إلى تأمين المواد الغذائية اللازمة للأطفال والعائلات الأكثر احتياجًا.

مع استمرار معاناة سكان غزة، يبقى الأمل في أن يتكاتف المجتمع الدولي والمجتمع المحلي في غزة لمواجهة هذه الأزمة الصحية المستمرة، والعمل على توفير الظروف المناسبة للحفاظ على الصحة الجسدية والنفسية في هذه الأوقات الصعبة.

 

مواضيع ذات صلّة:

أطفال غزة يواجهون الفقد والعزلة

بين السرطان والنزوح: أم تروي مأساتها

كيف أثرت الحرب الإسرائيلية على الحالة الصحية لسكان قطاع غزة؟