الغزيون يصنعون وقوداً: بطولة كارثية على الصحة والبيئة

الغزيون يصنعون وقوداً: بطولة كارثية على الصحة والبيئة

في ظلّ استمرار حظر إدخال الوقود إلى شمال قطاع غزة جرّاء الحصار المتزامن مع الحرب الإسرائيلية التي استمرت 15 شهرًا على قطاع غزة، يواجه السكان تحديًا مزدوجًا يتمثل في نقص الإمدادات وارتفاع الأسعار، وهو ما يزيد صعوبة تأمين الاحتياجات الأساسية بما في ذلك غاز الطهي والوقود اللازم لتشغيل المولدات والمركبات. 

هذا الواقع الصعب دفع العديد من الغزيين إلى البحث عن حلول بديلة لوقود المركبات وكذلك الاستخدام المنزلي، فكان أبرزها استخراج الوقود الناتج من حرق المخلفات البلاستيكية، على الرغم من المخاطر الصحية والبيئية الكبيرة المترتبة على هذا الفعل، والذي لا يواجه أي شكل من أشكال الرقابة الرسمية. 

وأصبحت هذه الممارسة التي قد تبدو بدائية وغير آمنة، ضرورة اقتصادية للبقاء على قيد الحياة في ظلّ الأزمات المستمرة، إذ لم يعد أمام السكان سوى اللجوء إلى هذه الحلول غير الآمنة في ظلّ شحّ الموارد. 

وعلى الرغم من التحدّيات والتهديدات الصحيّة الناجمة عنها، تبقى هذه الطريقة من بين الخيارات المحدودة المتاحة لتوفير الوقود اللازم للحياة اليومية في القطاع المحاصر. وفي الواقع قد يبدو انتقاد هذا الفعل جلداً للذات، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن المرور عنه مرور الكرام، بوصفه خطراً صحيا وبيئياً على حد سواء، وهو أيضاً يعد شكلاً من أشكال الاضرار غير المباشرة للحرب.

يستخرج ساري عليوة، أحد العمال في شرق مدينة غزة، البنزين والسولار من البلاستيك المحروق في عملية تستغرق ساعات طويلة من العمل اليومي وسط دخان سام، ليُسهم في توفير الوقود الذي لا غنى عنه، رغم التكلفة الصحية والبيئية الباهظة.

كان عليوة يعمل في صهر المعادن قبل السابع من أكتوبر 2023؛ لكنه اضطر إلى هذه المهنة الجديدة بعد توقف عمله بسبب الحرب الإسرائيلية، يقول: "أوقفت الحرب كل مصادر الدخل، فاضطررت إلى هذا العمل الصعب لتأمين احتياجات أسرتي أنا وتسعة عمال آخرين".

ويصف عليوة الذي غطت العوادم ملامح وجهه، عملية الحرق بالخطرة، حيث تتمثل أولاً بتكسير المُخلّفات البلاستيكية ووضعها في خزان حديدي كبير، لتسخينه وصهره من خلال إشعال النار بحرارة عالية ما بين 200-250 درجة مئوية أسفله، وإمداد صنبور مياه لتبريد المستخرج، ومن ثم إخراج السولار والبنزين بعد أن يتصاعد البخار من الخزان في عملية تستغرق ٨-  ١٢ ساعة عمل يومي.

يشير عليوة الذي يعمل في هذه الصناعة منذ عامٍ وثلاثة أشهر، في حديثه مع مراسلة "آخر قصة" إلى أنه ينتج نحو 120 لترًا من البنزين والسولار بشكل شبه يومي.

وتساعد هذه العملية في إنتاج وقود ذو رائحة حادة، لكنه يمكن استخدامه في اشعال "البوابير" التقليدية القديمة اللازمة للطهي، وكذلك يستخدم لتشغيل محركات المركبات.

وعلى الرغم من أنّ هذه العملية توفر الوقود الضروري للسكان، إلا أنَّ المخاطر الصحيّة المرتبطة بها كبيرة، إذ يعاني عليوة من آلام صدرية شديدة نتيجة استنشاق الدخان السام الناتج عن حرق البلاستيك، وهي مشكلة شائعة بين العمال الذين يمارسون هذا العمل، حيث تؤدي هذه المواد إلى مشاكل صحية مزمنة مثل ضيق التنفس والسعال المستمر.

عليوة لا يعمل وحده في هذا المعاناة، يوسف البطش، وهو شخص آخر يعمل في المجال نفسه بعد أن فقد عمله في مجال الخدمات، يروي كيف أصبح يُعاني التهاباتٍ شديدة في الصدر وكحة مستمرة رغم محاولاته حماية نفسه باستخدام الكمامة. ولكن كما يوضح، "الكمامة لا تحميني من الدخان المتصاعد، إذ يُسبب لي صعوبة شديدة في التنفس".

ويعمل في هذه المهنة المستحدثة نتيجة الحرب، وفق معاينة مراسلة "آخر قصة"، العشرات من العمال، موزعون على محافظتي غزة والشمال، وأغلبهم يتخذوا من المساحات الفارغة قرب الشاطيء ورشاً للعمل والتعبئة.

وطبقاً للملاحظة الميدانية، فإن هؤلاء الأشخاص تتراوح أعمارهم بين 15- 45 عماً، ومعظمهم لا يتردون لباساً خاصاً يمكن أن يحمي أجسادهم من خطورة الاحتراق، أو أدوات واقية كالكمامات لتقيهم استنشاق الغازات السامة.

 ووفقًا للطبيب بسام أبو ناصر، استشاري أمراض الصدرية والباطنية، فإنّ المواد السامة التي تُطلق في الهواء نتيجة حرق البلاستيك، مثل الرصاص والكيميائيات القاتلة، تُؤثر بشكلٍ كبير على الجهاز التنفسي والعوامل الأخرى المكونة للدم.

ويقول الطبيب أبو ناصر في حديثٍ لـ "آخر قصة": "بعد أقلّ من شهر، يتعرض العاملون لهذه الممارسات لانتكاساتٍ صحيّة شديدة، ولا تكون العلاجات فعّالة لأنّ الجسم يصبح مشبعًا بمواد سامة لا يمكن التخلص منها"، وتشمل الأعراض ضيق التنفس، السعال الشديد، والاختناق المستمر، إلى جانب مشاكل صحيّة أخرى قد تؤدي إلى سرطان الدم، سرطان الجلد، وسرطانات في الأعضاء الداخلية مثل القولون والكبد والكلى.

ويُؤكد الطبيب أنَّ الأشخاص الأكثر عُرضة للمخاطر هم أولئك الذين يُعانون أمراضًا مزمنة مثل الربو أو التليف الرئوي. فيما سُجِلت حالات وفاة نتيجة التعرُّض المطول لدخان البلاستيك، بما في ذلك حالات وفاة بسبب استنشاق سموم حرق إطارات السيارات (الكوشوك). 

لا يُعد استخراج الوقود من البلاستيك مجرد حيلة لإيجاد بدائل؛ بل هو واقع اقتصادي يواجهه العديد من الغزيين، ووفقًا للتقارير المحلية، يقدر أن إنتاج الوقود من البلاستيك يعوِّض نحو 12,000 لتر من الوقود يوميًا في قطاع غزة. وفي ظلّ منع إدخال الوقود بشكلٍ منتظم إلى القطاع، أصبح الوقود المستخرج من البلاستيك هو الخيار الوحيد للعديد من الأسر والعاملين في مجال النقل.

إضافة إلى ذلك، فإنّ أسعار البلاستيك في قطاع غزة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا، إذ وصل سعر الكيلو الواحد من البلاستيك إلى 8 شيكل، مقارنة بـ 3 شواكل مطلع الحرب؛ مما زاد تكلفة العملية بالنسبة للعاملين، وعلى الرغم من ذلك يبقى العديد منهم مضطرًا للاستمرار في هذه الأعمال المدمرة اقتصاديًا وصحيًا، بسبب نقص البدائل.

يبيع العاملون مثل عليوة والبطش البنزين والسولار المستخرج من البلاستيك بأسعار تتراوح بين 30 إلى 35 شيكلاً للتر الواحد، وهو ما يجعل هذه العملية مصدر الدخل الوحيد لدى بعض العائلات التي لا تملك مصادر دخل آمنة بديلة.

إلى جانب الأخطار الصحيّة لهذا العمل، لا يمكن إغفال الآثار البيئية المدمرة الناتجة عن حرق البلاستيك. حيث يشير الخبير البيئي نزار الوحيدي، إلى أن هذه الممارسات تؤثر بشكل كبير على البيئة، لا سيما في المناطق الزراعية القريبة.

ويقول الوحيدي: "المزارعون يشكون من تسمم المزروعات نتيجة تعرضها للدخان السامّ الناتج عن حرق البلاستيك". وفي ظلّ تراجع النشاط الزراعي وزيادة معاناة المزارعين، تُضاف هذه الأضرار إلى التحديات الاقتصادية الأخرى التي يواجهها سكان غزة. ووفقًا لخبراء في الاقتصاد، فأن نحو 100% من سكان غزة يعانون الفقر، مع نسبة عالية من البطالة تصل إلى نحو 80%، وهو ما يزيد من تعقيد الأوضاع الاقتصادية في القطاع.

فيما يؤكد الوحيدي أنّ الفقر والحاجة الماسة إلى إيجاد حلول بديلة للوقود هي التي دفعت الناس للجوء إلى هذه الممارسات الخطرة. وقال في حديثٍ مع مراسلة "آخر قصة": "لولا الحصار لما فكر أحد في هذه الحلول المدمرة، فالأضرار الصحية والبيئية الناتجة عن حرق البلاستيك هائلة، لكن في ظلّ الظروف الحالية، يصبح من الصعب الحصول على الوقود من مصادر أخرى."

في الأثناء، قال مصدر حكومي رفض الكشف عن اسمه، "صحيح أن هذا الواقع يحمل الكثير من المخاطر الصحية والبيئية لكنه -في الوقت نفسه- جزء من حالة التحدي التي يقوم بها الفلسطينيون في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية".

وأضاف المصدر الحكومي، "الواقع الصحي والبيئي والاقتصادي، يعاني تردٍ خطير وغير مسبوق في ظلّ الحرب، وواحدة من الانعكاسات الخطيرة لهذه الحرب هو محاولة السكان البحث عن بدائل، لذلك من الصعب أن تكافح هذه البدائل الخطرة (الوقود الصناعي) في ظلّ انعدام الوقود الآمن، والذي يمنع الاحتلال إدخاله كجزء من سياسة العقاب التي يفرضها على السكان".   

وبحسب اعتقاده، فإنَّ هذه الورش ستختفي من تلقاء نفسها، مع بدء تدفق الوقود إلى القطاع عبر المعابر التجارية وفق ما هو متفق عليه بموجب اتفاق التهدئة.  

مع استمرار الحصار، من المتوقع أن تزداد هذه الممارسات غير الآمنة من حيث الاعتماد عليها، ولكن وفقًا للخبراء الاقتصاديين، فإنّ هذا الحل، رغم كونه مؤقتًا، لا يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي بشكل مستدام؛ بل يعكس الأزمات العميقة التي يعانيها قطاع غزة. 

ويبقى الأمل في أن يعمل المجتمع الدولي على إيجاد حلول مستدامة، مثل رفع الحصار، لتوفير الوقود والمساعدات الأساسية بشكل منتظم وآمن، لضمان حياة صحية وآمنة للأهالي في القطاع.

 

مواضيع ذات صلّة:

الزيت النباتي: وقود المركبات تحت الحرب

اقتصاد الحرب: أبرز تحولات سلوك الأفراد والأسواق

نبّاشون في غزة يستخرجون حلولًا من النفايات بإعادة التدوير