لا يمكن لأحد أن يسلك شارعاً في قطاع غزة في أعقاب وقف إطلاق النار، إلا وتصطدم قدماه بأكوامٍ من النفايات الصلبة، فيما يشكو المئات من المواطنين من أثر هذه النفايات على صحتهم، وبخاصة المرضى منهم.
وبينما تعثرت قدم السيدة نهى سالم (53 عاماً) في أكياس ملقاة في طريق تسلكه إلى السوق في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، تبين لها لاحقاً أنه يحتوي مخلّفات طبية. وقالت سالم: "لولا أنني تنبهت وإلا قد وخزتني الحقن في قدمي وربما تسببت لي بالتسمم أو الموت".
وتشكو سالم من تكدّس النفايات في الطرقات بما في ذلك النفايات الطبية التي تشكل خطرا على حياة الناس، موضحةً أن هذه النفايات تشكل أيضا خطراً مضاعفاً على صحة "النباشين" بما فيهم الأطفال الذين يجمعون البلاستيك من وسط النفايات لغاية التكسب، في ظلّ فقدان مصادر العمل بفعل الحرب.
تشهد شوارع قطاع غزة انتشارًا واسعًا للنفايات الصلبة، خاصّة في المناطق القريبة من أماكن تواجد النازحين، ليُضاف هذا التلوث إلى جملة التحدّيات التي يواجهها سكان القطاع منذ اشتعال فتيل الحرب الإسرائيلية عليهم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد أضحت النفايات "القاتل الصامت" الذي يهدد حياة الغزيين.
وبفعل الحرب، لم تُمارس الجهات المختصة عملها في نقل النفايات إلى المكبات المخصصة للتخلص منها، خارج أماكن تواجد السكان، نتيجة إعاقة الاحتلال لعملهم وتدمير المعدات الخاصّة بهم.
وأدى التوقف الاضطراري للجهات الرسمية عن عملها إلى تكدُّس النفايات في الطرقات؛ ما أثر بشكلٍ مباشر على صحة الإنسان، متسببًا في تفشي أمراض تنفسية وجلدية كالطفح الجلدي وغيرها، فضلاً عن تلوث الهواء والتربة.
وفي التفاصيل، تسببت هذه الأزمة الصحية في تسجيل 280 ألف حالة مرض تنفسي، بالإضافة إلى 14 ألف حالة إسهال و480 ألف حالة جرب، بحسب مركز الرعاية الصحية الأولية في غزة، وذلك نتيجة لاختلاط النفايات الطبية ببقية الأنواع، وحرق النفايات بشكل مستمر للتخلص من الحشرات التي تنبع منها.
أثناء الحرب استهدف الاحتلال الإسرائيلي مكب الفخاري في محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، في خطوة إضافية لتفاقم المعاناة، حيث توقف المكب عن العمل تمامًا بعد تدمير بنيته التحتية. وأدت هذه الخسائر إلى توقف استقبال أكثر من (600) طن من النفايات يومياً، فيما بلغت تكلفة التدمير (3.5) مليون شيكل.
بموازاة ذلك، تواجه بلدية غزة تحديات كبيرة بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في التاسع عشر من يناير الماضي. ويؤكد الناطق باسم البلدية حسني مهنا، في حديثه لـ "آخر قصة"، أن كمية النفايات التي تراكمت في شوارع المدينة وصلت إلى حوالي 170 ألف طن.
وعلى الرغم من توقف نيران الحرب، ما زالت غزة تعاني من إشكالية المكبات العشوائية المستحدثة خلال 15 شهراً. ففي محافظة غزة، تمركزت النفايات الصلبة بكميات ضخمة في منطقة سوق اليرموك (نحو 5 آلاف طن) ومنطقة سوق فراس (حوالي 25 ألف طن). كما تواجه البلديات صعوبة في التعامل مع هذه الكميات بسبب نقص الموارد والوقود.
غير أنَّ مهنا قال: "بدأنا في جمع النفايات المتكدسة في الشوارع والأحياء بمساعدة آليات من القطاع الخاص، بعد تدمير 80% من آلياتنا خلال الحرب". كما أضاف أنَّ بلدية غزة لجأت إلى المكبات المؤقتة في سوق فراس ومحطة اليرموك بسبب منع الاحتلال الطواقم من الوصول إلى المكب الرئيس في جحر الديك.
وأكّد مهنا أنّ بلدية غزة بدأت التعاون مع لجان الأحياء والمبادرات التطوعية لتنظيم جمع النفايات، بالإضافة إلى تشغيل عمال جدد بالتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
كما تسعى البلدية للحصول على دعم من القطاع الخاص لزيادة عدد الآليات العاملة؛ وذلك نتيجة النقص الحادّ الذي تعانيه في الآليات، بعد تدمير الاحتلال لـ 133 آلية من آليات البلدية. فيما أشار مهنا إلى أن الاحتلال منع الطواقم من الوصول إلى المكب الرئيس في جحر الديك؛ مما اضطرهم إلى اللجوء للمكبات المؤقتة وسط المدينة.
وفيما يتعلق بالجهود الحالية للتخلص من النفايات الضخمة، أكد مهنا أن البلدية تسعى حاليًا إلى تحديد مواعيد لجمع النفايات من مناطق وأحياء المدينة، بهدف الوصول إلى مرحلة التعاون المجتمعي التي تمكنهم من نقل النفايات مباشرة إلى المكب الرئيس دون الحاجة إلى المكبات المؤقتة.
في ظلّ هذه الأزمة، يلجأ العديد من السكان للتخلص من النفايات الصلبة بواسطة الحرق، مما يؤدي إلى انبعاث سحب من الدخان الملوث، وهو أمر يشكل خطرا حقيقيا على صحة أصحاب الأمراض التنفسية والمزمنة.
وتروي أم أمين جابر، التي كانت تقيم بالقرب من مكب نفايات في خانيونس، معاناتها لـ "آخر قصة" قائلة: "لم نكن نتمكن من النوم بسبب الحشرات، وأنا وأولادي أصبنا بأمراضٍ جلدية مثل الجرب، بالإضافة إلى معاناتي من مرض الربو، حيث يصيبني السعال وضيق التنفس كلما تم حرق النفايات".
تعقيبًا على ما أشارت إليه السيدة أم أمين، يقول أخصائي الأمراض الجلدية الطبيب إبراهيم منصور، أن تكدس النفايات بالقرب من المناطق السكنية تسبب في تفشي أمراض عديدة مثل الجرب، الجدري، والقمل، مشيرًا إلى أن الروائح الكريهة التي تنبعث من النفايات تؤدي إلى صعوبة التنفس وأمراض رئوية على المدى البعيد.
وقال منصور في حديثٍ لـ "آخر قصة": "إن أمراض الحساسية انتشرت بين صفوف الغزيين الذين يقطنون بالقرب من مكبات النفايات، وحبوب الوجه التحسسية انتشرت عند الصغار والكبار، إضافة إلى الالتهابات البكتيرية، وأمراض الفطريات، إذ تزيد انتشارها بفعل الملامسة للنفايات أو العدوى من أيّ شخص طاله التلوث".
ودعا الطبيب منصور الأهالي إلى إبعاد أطفالهم عن اللعب في الرمال وبالقرب من مكبات النفايات حفاظًا عليهم من الأمراض بشكل عام، والاهتمام بالنظافة الشخصية للتخفيف من الإصابة بالالتهابات الجلدية.
وحذر من أن احتراق المبيدات الحشرية، التي تختلط النفايات الصلبة، يفرز مواد سامة تؤثر بشكل مباشر على صحة الإنسان، مؤكدًا أن النفايات يجب أن تُعامل بعناية خاصة ويُفصل بعضها عن الأخرى.
لم تؤثر النفايات المتكدسة في شوارع غزة على صحة الإنسان فحسب بل تسببت في أزمة بيئية خطيرة سيستمر أثرها لسنوات، وبحسب المختص البيئي محمد مصلح فإنّ النفايات تحتوي على مواد سامة وخطيرة، تتسبب في تلويث المياه الجوفية، بعد ولوج مادة الزئبق الضارة للتربة وتسربها للخزان الجوفي.
ونوّه مصلح إلى أن النفايات تؤدي لتشوه المنظر العام وشغل مساحات كبيرة من الأراضي، ولجوء المواطنين لحرقها تلوث الهواء وتبعث غازات ضارة كالميثان وثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى أن اختلاط النفايات الصلبة بالنفايات الطبية شكل كارثة معقدة إذ تسببت في تفشي الأمراض الخطيرة وأبرزها التنفسية والجلدية.
وفي السياق الحقوقي، يرى الخبراء أن منع الاحتلال الإسرائيلي من الوصول إلى مكبات النفايات وإجبار السكان على التعامل معها داخل المدينة يُشكِّل جزءًا من "الإبادة البيئية" التي تُعتبر جريمة حرب وفقًا للقانون الدولي.
وفي تقرير سابق، أصدر مركز حقوق الإنسان تقريرًا أكد فيه جريمة الاحتلال بحق البيئة والمناخ في غزة، مشيرًا إلى صعوبة التخلّص من النفايات الطبية وتفاقم الوضع الصحي في المنطقة.
وأكّد المحامي طارق الزر في حديثٍ لـ "آخر قصة" إنّ المواد القانونية في الفقرتين (4/أ) و(2/ب) من المادة (8) الواردة في نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، تُثبت أنّ منع "إسرائيل" الجهات المختصة في غزة من الوصول إلى مكبات النفايات هو "جريمة حرب".
كما تنصّ المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على ضرورة اتباع شروط لتحسين الواقع الصحي والبيئي وعدم المساس بالسكان ووقايتهم من الأمراض الوبائية.
وأشار المحامي الزر إلى أنّه بحسب البروتوكول الإضافي للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان المتعلق بالحقوق الاقتصادية -وتحديدًا- المادة (11)، يحق للإنسان العيش في بيئةٍ صحيّة، كما يحظر على الاحتلال تدمير أي ممتلكات خاصة بالسلطات العامة وذلك وفقًا للمادة (53) من اتفاقية جنيف، وما يفعله الاحتلال يندرج تحت الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني.
وعلى الرغم من دعوات المختصين البيئيين بضرورة تنظيم عمل مكبات النفايات لتكون بعيدة عن التجمعات السكنية، ولضمان وجود آليات تمنع تسرب المواد السامة إلى المياه الجوفية، ما زالت غزة تعاني من كارثة النفايات المتكدسة في الشوارع، على الرغم من وقف إطلاق النار.
وتواصل الجهات المختصة جهودها الكبيرة، رغم قلة الإمكانات، إذ تناشد بضرورة إدخال المعدات الثقيلة والسماح بالوصول إلى مكب جحر الديك لتفريغ حمولة النفايات المتكدسة في المكبات المؤقتة بعيدًا عن المناطق السكنية.
مواضيع ذات صلّة:
الغزيون يصنعون وقوداً: بطولة كارثية على الصحة والبيئة
النفايات.. قاتل صامت يتربص بحياة أهالي قطاع غزة المحاصر
نفايات غزة... أطنان متراكمة تُلوّث البيئة وتهدد الإنسان بالأمراض
النفايات قطاع غزة