سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد

سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد

قبل الحرب، كان محصول الفراولة، المُلقّب بـ "الذهب الأحمر" في قطاع غزة، كنايةً عن وفرة مدخوله الاقتصادي على العديد من المزارعين، يُشكِّل طوق نجاة للاقتصاد الغزي عمومًا الذي كان يُعاني من التدهور، وللمزارعين أيضاً بوصفهم إحدى الفئات الهشة.

وتعد الفراولة الغزية من أبرز المحاصيل التصديرية التي ازدهرت وحظيت بشعبيةٍ في الأسواق الأوروبية، فحققت أرباحًا كبيرة دعمت الاقتصاد المحلي من خلال إدخال العملة الصعبة.

لكن وبفعل الحرب الإسرائيلية على القطاع التي استمرت 15 شهراً، تعرَّض القطاع الزراعي الحيوي لتدميرٍ كامل، فتحوّلت الأراضي الخصبة إلى مساحات قاحلة؛ مما جعل من الذهب الأحمر ذكرى مؤلمة وكارثة اقتصادية تسببت في تسريح آلاف العمال وتدمير صناعات تحويلية كانت تعتمد على محصول الفراولة.

يواجه هؤلاء المزارعون اليوم حربًا ثانية لترميم ما جرفته آليات الاحتلال وسط انعدام الحلول أمامهم، فيما لم يؤثر تدمير محاصيل الفراولة على الزراعة فقط، بل زعزع القطاع الزراعي بأكمله، الذي يمثل 15% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني.

تظهر تقارير صادرة عن المنظمة الأممية "الفاو" أنّ 67.6% من الأراضي الزراعية تضررت حتى بداية سبتمبر 2024، فيما أشار تقرير صادر عن وزارة الزراعة الفلسطينية أن الخسائر في القطاع الزراعي جرّاء الحرب الإسرائيلية بلغت نحو مليار دولار أمريكي.

نائل معروف أحد مزارعي الفراولة في محافظة بيت لاهيا شمال قطاع غزة التي طالما اشتهرت بزراعة هذا المحصول، يرى أن حربًا أخرى اشتعلت بعد وقف إطلاق النار  في التاسع عشر من يناير الماضي. يقول معروف: "فقدت أرضي الزراعية التي كانت تزدان بالفراولة كل عام، تحولت إلى خراب كبير، وخسرت عشرات آلاف الدولارات ومصدر رزقي الوحيد".

ومِثل معروف، قرابة 40,000 مزارع فقدوا مصدر رزقهم، فيما هو لم ينزح من بيته في بيت لاهيا؛ إلا بعدما حاوطته الدبابات الإسرائيلية فنجا بروحه وحيدًا وخسر 13 دونمًا زراعيًا جرّفها الاحتلال، كما قال.

وأضاف الرجل الذي بدا البؤس على وجهه في حديثه مع مراسلة "آخر قصة" : "أرضي كانت عبارة عن حمامات زراعية، مزروعة بالفراولة والخيار والتوت والباذنجان، جرفتها الآليات الإسرائيلية ودمّرت كل مقومات الحياة الزراعية فلم يعد بإمكاني العودة من جديد".

بالإضافة إلى مخاسر المزارع معروف نتيجة الحرب، فإنّه أصبح مديونًا بما يزيد عن 30 ألف دولار، بعدما دمر الاحتلال كل المقومات التشغيلية لأراضيه، مستعرضا تكاليف المعدات الزراعية الباهظة التي خسرها، "التراكتور الزراعي يبلغ سعره 10 آلاف دينار أردني، والمولّدات الكهربائية في اللازمة لتشغيل أبار الري في الدونمات الواسعة أيضًا تفوق تكلفتها 10 آلاف دولار، بالإضافة إلى خسائر المحاصيل الزراعية وشلّ الحركة لعامٍ ونيف من الحرب".

ومنذ ستينيات القرن الماضي، كانت غزة تشتهر بزراعة الفراولة في أراضيها الخصبة، التي كانت تصدر للمناطق المختلفة، وبفضل مناخ المنطقة ومواردها المائية، ازدهرت الزراعة حتى بلغت المساحات المزروعة 3500 دونم تُنتج 11 طنًّا؛ لكن الحرب الأخيرة أحدَثت دمارًا شاملًا.

وهو ما أكّده الناطق الإعلامي باسم وزارة الزراعة في قطاع غزة محمد أبو عودة، وعطفًا على ذي بدء فإنَّ مزارع الفراولة تعرَضت لتدميرٍ شامل بنسبة 100% بفعل الحرب الإسرائيلية، وقال أبو عودة، "هذا الدمار الهائل وغير المسبوق هدم إحدى ركائز القطاع الزراعي والاقتصادي، فالتوت الأرضي أحد المحاصيل الزراعية التي تُدر دخلاً، وتسهم في دعم الاقتصاد الوطني".

في التفاصيل، أشار أبو عودة إلى أنّ حجم الصادرات لمحصول الفراولة من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ودول عربية وأوروبية بلغ 5.500 طن، فيما بلغت القيمة المالية لتصدير الفراولة 11 مليون دولار. كما تساهم الفراولة في قيمة صادرات الإنتاج الزراعية بقيمة 13.5%، وهو ما يُشير إلى أن كمية إنتاج الفراولة من كمية صادرات الإنتاج الزراعي شكَّلت 11%.

وقال أبو عودة في حديثٍ إلى "آخر قصة" : "إنّ فقدان نسب ومبالغ كهذه أدى إلى كارثة بالمقاييس كلها على القطاع الزراعي والاقتصادي".

ولا يقتصر العمل في مزارع الفراولة على الذكور فقط، بل إنّ العملية الإنتاجية لمحصول التوت الأرضي تتطلب عددًا كبيرًا من العمال يصل إلى عشرة في الدونم الواحد. وبحسب المتحدث باسم الوزارة، فإنَّ حوالي 40 ألف شخص فقدوا عملهم في مزارع الفراولة جرّاء الحرب ومن بينهم آلاف الأيدي العاملة النسائية اللواتي يُساعدن أسرهن في مواسم الفراولة.

عطاف ربيع، وهي أمّ لأربعة أبناء، كانت تعمل في مزارع الفراولة في منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ويعتبر هذا العمل مصدر رزقها الوحيد؛ لكنها وبفعل الحرب نزحت إلى جنوب قطاع غزة بعدما شهدت المنطقة التي تقطن فيها دمارًا كبيرًا امتد إلى الأراضي الزراعية غرباً.

خلال شهور النزوح كانت تأمل ربيع العودة إلى بيت لاهيا حيث مزارع الفراولة والعمل من جديد لكن الحرب الإسرائيلية دمرت كل شيء، ومع اجتياح جرافات الاحتلال للأراضي الزراعية، تحولت المزارع إلى أرض جرداء، فخسرت المرأة أملها في تحسين ظروف حياتها واستعادة مصدر دخلها الأساسي.

وكانت السيدة "ربيع" تقطن الخيام في جنوب قطاع غزة، وتعجز عن تأمين قوت يومها. وكانت تعلق أمالا واسعة على استئناف عملها، لكنها وبعد السماح بالعودة إلى مسقط رأسها (بلدة بيت لاهيا)، وجدت أنها حلمها باستكمال عملها قد تبخر.

ومع تدمير الأراضي الزراعية، ستعاني هذه السيدة وعشرات السيدات مع عائلاتهن، أوقاتًا عصيبة في ظلّ غياب الدعم والفرص، لكن رغم الصعاب كلها، لا تزال تحاول التمسك بالأمل لأجل أطفالها، تقول ربيع.

كما امتدّت آثار التدمير الزراعي لمزارع الفراولة إلى القطاع الاقتصادي بما يشمله من قطاعٍ تجاري وصناعي وإنتاجي، وهو ما أفاد به المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، الذي قال في حديثٍ إلى "آخر قصة"، إنَّ تدمير القطاع الزراعي هو تدمير لقطاع الصادرات فالزراعة هي التي كانت تُرجِح كفة الميزان التجاري بمعنى أنَّ كفة التصدير كانت غالبيتها سلعًا زراعية وعلى رأسها الفراولة.

وأكد أبو قمر أنَّ الدمار الذي خلَّفه الاحتلال في القطاع الزراعي يرتبط ارتباطًا تامًا بالاقتصاد المحلي، فالكارثة على المستويات كلها، لا سيما انعدام الأمن الغذائي، وارتفاع أسعار السلع الأساسية للاعتماد على الواردات، موضحًا أنّه يجب على المؤسسات المعنية بالزراعة والغذاء كـ "الفاو" الوقوف عند مسؤوليتها تجاه القطاع الزراعي، وحفظ حقوق المزارعين والتأكيد على عدم المساس بالزراعة، واتباع الإجراءات اللازمة للنهوض الفوري لضمان انتعاش الاقتصاد الفلسطيني مجددًا.

لم تكن مزارع الفراولة مجرد أراضٍ للزراعة فحسب، بل مكان سياحي يتجه إليه زائرو قطاع غزة، إضافة للسكان المحليين، وبتدميره يكون الجيش الإسرائيلي قد دمر فكرة السياحة الزراعية، التي بدأت مع ظهور أول مزرعة سياحية للفراولة المعلقة في بيت لاهيا عام 2015، وبعد نجاح الفكرة توالت المزارع لتصل لخمس مزارع في شمال غزة.

ينتظر كلاً من معروف وربيع والآلاف غيرهم بدء عمليات إعادة إعمار قطاع غزة، فآمال المزارعين بالعودة للنشاط الزراعي تلاشت في ظلّ ظروف التدمير الحاليّة، فيما يطالبون بالتدخل السريع وإدخال المعدات والأسمدة الزراعية لإصلاح الأراضي وإعادة عافيتها؛ ومن ثمّ العودة من جديد للزراعة التي قد تأخذ وقتًا طويلاً حتى يعود الإنتاج بعدما توقف لموسمين.

في الإطار، توجهت آخر قصّة بالاستفسار من وزارة الزراعة في غزة عن خطط التعافي التي تضعها وزارة الزراعة لإحياء مزارع الفراولة؟ يجيب الناطق الإعلامي باسم الوزارة: "سنتبع خطة لتثبيت المزارعين المتضررين عبر مراحل متعددة تبدأ بالإغاثة الإنسانية للمزارعين، مرورًا بترميم الأراضي الزراعية ومعالجتها، وانتهاءً بتأهيل البنية التحتية الزراعية بكل المعدات المطلوبة"؛ إلا أن هذه الخطط تتطلب وقتًا طويلًا لتحقيق النتائج المرجوة.

وبحسب مختصين في مجال البيئة فإنّ ما تستخدمه "إسرائيل" من متفجرات ممنوعة دوليًا، يؤثر في الأراضي الزراعية حيث إن المواد الكيميائية المنبعثة من الصواريخ المتفجرة مثل النحاس والرصاص وغيرها تترسب في التربة؛ مما يؤدي إلى تلوثها على المدى القريب والبعيد، ويجعل التربة غير صالحة للزراعة، وهذا سيؤدي مستقبلًا إلى تقليل الإنتاجية الزراعية، ولذلك يجب ترميم ومداواة الأرض بطرق آمنة ليتمكن المزارع من زرع البذور.

ويُعد تدمير القطاع الزراعي في غزة وحرمان المزارعين من مصدر رزقهم الأساسي انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقات جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة بها، إلى جانب انتهاك أحكام ميثاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية. 

يؤكد المحامي رامي محسن في حديثه لـ "آخر قصة" أن تجريف الاحتلال الإسرائيلي لآلاف الدونمات الزراعية وإلقاء المتفجرات بشكل مفرط أوقع أضرارًا كبيرة على البيئة، بما يشمل الهواء والأرض والمياه، مما يُعد انتهاكًا جسيمًا لحماية البيئة والعناصر الحيوية التي يعتمد عليها بقاء السكان المدنيين، مثل الأراضي والمحاصيل الزراعية.

وأشار محسن إلى أن المادة (54) من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف، والمادة (55) من نفس البروتوكول، تلزم الاحتلال بحماية البيئة من الأضرار الجسيمة على المدى الطويل، وتحظر الوسائل العسكرية التي تُلحق ضررًا بالبيئة الطبيعية. 

وطالب محسن جميع المؤسسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة والدول الموقعة على اتفاقيات جنيف، بالتحرك العاجل لإنقاذ ما تبقى من البيئة والأراضي، والبدء فورًا في إعادة تأهيلها، مع ضرورة محاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات لضمان تحقيق العدالة ومنع تكرارها في المستقبل.

أمام هذا الواقع، يُعد تدمير الفراولة وأراضيها في غزة ليس فقط خسارة اقتصادية؛ بل انتهاكًا جسيما للقانون الدولي، خاصة مع الآثار البيئية التي تسببها الأسلحة المستخدمة من قبل الاحتلال؛ ما يضيف عبئًا ثقيلًا على الأرض التي تفتقر إلى الظروف اللازمة للنمو والتعافي.

 

مواضيع ذات صلّة:

الإبادة الجماعية... إبادة القطاع الزراعي

الأمم المتحدة: الحرب على غزة تدمر أكثر من نصف أراضيها الزراعية