مستقبل الناجي الوحيد: ألم نفسي طويل الأمد 

مستقبل الناجي الوحيد: ألم نفسي طويل الأمد 

في مساءٍ كان يبدو كحلمٍ دافئ وسط كابوس الحرب، توقفت عقارب الساعة في بيت العمّ سعيد أبو قاسم، عند السادسة والنصف من 11/ يناير الماضي، وكأّن الزمن نفسه أراد أن يخلّد لحظة كان كل شيء فيها يجتمع: "العائلة، الحب، والدفء".

كانت الغرفة ضيقةً مزدحمة بأجساد الأهل المتراصة، لكنها اتسعت لضحكاتهم وأصوات أحاديثهم التي تتغافل ضجيج القذائف في الخارج، وكأنهم يخلقون معًا ألحانًا تُقاوم الموت الذي يلاحقهم.

البرد قاسٍ، ولكن نارًا صغيرة أشعلوها في الزاوية وإبريق الشاي بجانبها منحهم شعورًا زائفًا بالأمان. تقول ابنته آلاء: "حمصنا الخبز على موقدٍ صغير في الغرفة، فكان مذاقه ليس طعامًا، بل مُغمسًا بحبٍ عميق لا يستطيع أيّ شيء سرقته منّا".

وبينما كانت الأخوات أروى وهيا تتمازحان بمرح، قالت أروى ضاحكةً: "ما هذه العائلة التي لا يوجد بها شهداء؟" ردّ أخيها محمد بسرعة، وكأنما كان يجيب عن سؤالٍ لم يُطرح بعد: "ما أدراكِ؟ ربما نكون نحن!"، لحظةً صمت، تجمّد فيها الوقت، كما لو أنّ كلماتهما فجرت الحقيقة التي كانوا يخشونها.

تردف آلاء وهي تروي الحدث الذي أودى بعائلتها: "تلك الليلة نمنا معًا، جسدًا واحدًا في وجه الخوف، مترابطون في دفءٍ صنعناه بأيدينا، ولكننا لم نعلم أنها كانت الليلة الأخيرة، وأنّ صاروخًا إسرائيليًا سيسقط ليلًا ليقتل دفء العائلة إلى الأبد".

وفي اليوم التالي، انتهى كل شيء، المنزل الذي كان ملاذًا، أصبح اليوم مجرد ذكرى محترقة تحت الأنقاض، رحل ستةٌ منهم: "الأم "آمال أبو قاسم"، وأختها عائشة، وأبناء آمال: محمد، أروى، هيا، والتحق بهم عمرو".

وبقيتُ آلاء، الناجية والشاهدة على العشاء الأخير، على لحظة حبٍ عاشوها رغم الألم، وعلى ذكريات لا تموت، حتى وإن غاب أصحابها. استقبلت خبر إعلان وقف إطلاق النار بعد قضائها عامًا تتعافى من جروح إصابتها، بفرح ممزوج بألمٍ شديد وفرحةٍ منقوصة للأبد.

الناجي الوحيد من حرب قاسية كتلك التي شنّتها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، هي قصّة لم يتمنَ أحد أن يكون بطلها، ومع إعلان قطر في الخامس عشر من يناير 2025، التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، تقفز صورة واحدة في صدر كل غزيّ صورة الناجي الوحيد الذي يحمل مقبرة بين يديه فيما روحه ترقب الفرح بنجاةٍ تُشبه الهلاك.

ووفقًا لبيانٍ صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية، فإن إسرائيل قتلت خلال الحرب على القطاع 1,413 عائلة فلسطينية، جميعها مُسحت من السجل المدني، بقتل الأب والأم وجميع أفراد الأسرة، فيما يبلغ عدد أفراد هذه العائلات 5,455 شهيدًا. كما قتل الاحتلال 3,467 عائلة فلسطينية لم يتبقَّ منها سوى فرد واحد، عدد أفرادها 7,941 شهيدا.

في أكتوبر 2023، نزحت غدير نصير من بيت زوجها في بيت حانون شمال قطاع غزة، إلى بيت والدها في بيت لاهيا، الذين استقبلوها بترحيبٍ كبير أنساها مرارة النزوح، فتارةً يحتفلون بأبنائها، وتارةً يُصرّ عليها والدها أن تخرج مع الصغار؛ لتشتري لهم الحلوى من محلٍ قريب.

خرجت غدير مع أبنائها وخلال دقيقتين من وصولها للمحل سمعت صوت قصفٍ قريب، "تقول رجف قلبي من شدّة الصوت وصرخت لا إراديًّا بصوتٍ عالٍ ذهب بيت أهلي، كأنَّ هاجس أوحى لي بأنّ القصف قد أصابهم في مقتل".

مرّ يوم طويل قضته غدير وهي تنتشل جثث أفراد عائلتها الستٌ وعشرين وبينهم أطفال ونساء حتى تمكنت من دفنهم جميعًا، تردف: "ذهبوا جميعًا، لم يبقَ لي من البيت وأهله إلا عباءة أزلت بها الركام عن أجسادهم، واختلطت بدمائهم، فاحتفظت بها حتى اليوم".

تعيش السيدة نصير وحيدةً بين ذكريات صور عائلتها وبعض مشاهدٍ متقطعة عن عمرٍ قضوه معًا، حتى ذهبوا وبقيت هي تُكابد ألم فراقهم ولوعة الوحدة من بعدهم.

تعدّدت أشكال نجاة الأفراد من موتٍ محقق إثر قصف إسرائيلي، منهم مَن كان أوسطهم، لكنّه نجا، ومنهم مَن كان على بُعد أمتار منهم، ومنهم مَن كان نازحًا بعيدًا، كأمير عيادة الذي نزح من بيت لاهيا شمال القطاع مع زوجته وطفلته الرضيعة إلى دير البلح وسط القطاع، بعد إصرار والده عليه أن يذهب بحثًا عن الأمان وخوفًا على حياة حفيدته الصغيرة.

بقي عيادة الذي كان يتواصل يوميًا مع عائلته يومين يحاول مهاتفتهم دون ردّ، ووسط ضعف شبكة الاتصالات حيّنها، تمكَّن بعد يومين من معرفة خبر قصف المنزل الذي نزحت له عائلته في بيت لاهيا واستشهادهم جميعًا (24 فردًا) إلا شقيقه (21 عامًا) الذي تعرّض لإصابةٍ خطيرة ما زال حتى اليوم يعاني على إثرها.

يتنهد الرجل وجعًا على ما ألّمَّ به، ويقول: "شعرت بفقدهم كأنّ ظهري كُسِر، لن أقف على قدميّ بعدهم، ولن تستقيم حياتي، أشعر طوال الوقت بالضياع والوحدّة، لم أودّعهم ولم أرهم حتى إنني لا أعرف لهم قبرًا، ذهبت أحلى أيامي بلا رجعة".

إيمان سالم أيّضًا فقدت أرواحًا هائلة من عائلتها بعدما اضطرت للنزوح منذ أكتوبر 2023، من مدينة غزة إلى وسط القطاع حيث دير البلح، صحبة زوجها وأسرتها الصغيرة.

ومنذ لحظة نزوحها حتى التاسع عشر من ديسمبر 2023، نادرًا ما تمكّنت إيمان من التواصل مع الأهل؛ نظرًا لسوء شبكة الاتصالات في تلك الفترة خاصّة بين شمال القطاع وجنوبه، وصعوبة التواصل.

حاولت إيمان مرارًا التواصل مع العائلة لكن دون جدوى، وفي ذلك اليوم من ديسمبر 2023، عرِفت بمحض الصدفة بخبر قصف المنزل الذي نزحت إليه عائلتها واستشهادهم، حيث فقدت 30 شخصًا من عائلتها، منهم والدها ووالدتها وأشقاؤها الستة وأبنائهم وزوجاتهم.

صدمة هائلة أصابتها، لشهور بقيت تعاني حالة نفسية كارثية على إثر الخبر، وحتى اللحظة لم تستوعب حجم ما فقدت، فيما ينتابها حنين بالغ لهم جميعًا، تقول باكية: "أمنية ستبقى عالقة في قلبي للأبد، أرمي بنفسي في حضن أمي، أشتاق إليها كثيرًا، ذهبوا جميعًا للموت دون أن أراهم".

ويحتاج الناجون الوحيدون من بين عائلاتهم، إلى رعايةٍ نفسية واجتماعية عميقة، وفي هذا الإطار، أشارت المختصة في الإرشاد النفسي والأسري سماح دبور، إلى أن الناجين الوحيدين من عائلاتهم في الحروب والقصف العنيف يعانون بشكلٍ مضاعف وتستمر معاناتهم حتى بعد توقف الحرب.

عندما يفقد المرء كل أفراد عائلته في لحظةٍ واحدة، وينجو بمفرده، يجد نفسه محاطًا بالفراغ والفقدان. وفقًا لدبور، التي قالت: "في هذه الحالة، تكون الصدمة النفسية شديدة، وقد يعاني الناجون من كرب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب الحاد، ويشعرون بالحاجة إلى العزلة للتعامل مع الحزن العميق والصدمة."

وأضافت دبور في حديثٍ إلى "آخر قصة": "الناجون الوحيدون يشعرون أحيانًا بفقدان الثقة بأنفسهم، ويشعرون بالعجز والضعف والضياع، خاصة في حالة كونهم المعيلين الوحيدين لأنفسهم، دون وجود أيّ دعم أو حماية."

في البداية، يحتاج الناجون الوحيدون للدعم النفسي الأساسي بالإضافة إلى توفير الاحتياجات الضرورية كما يتطلب الأمر تدخلات علاجية نفسية مكثفة للتعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة، وقد تشمل تلك التدخلات العلاجية استخدام الأدوية في بعض الحالات.

كما من المهم، بحسب دبور، دمج هؤلاء الناجون في المجتمع من خلال برامج إرشادية تساعدهم على مواجهة الصدمة، وتقبل ما حدث، والعمل على معالجة آثار الفقدان العميق مثل الاكتئاب، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، وتمكيّنهم من العيش بكرامة دون الشعور بالحاجة أو العوز.

 

مواضيع ذات صلّة:

- الناجون من الحرب سقطوا في فخ الصدمة مجدداً: أطفال غزة للخلف در

- قبل أن يقتل الحر الناجين من الحرب؟

- أزمات نفسية معقدة في غزة جراء الحرب