تجلس الشابة الفلسطينية النازحة أميرة فتحي (31 عامًا) أمام شاشة التلفاز في شقتها، الواقعة في إحدى ضواحي القاهرة، عين على أخبار الأهل في قطاع غزة الذين يرزحون تحت وطأة تبعات الحرب الإسرائيلية، وعين على ورقة في يدها تعيد فيها حسابات مصروفاتها بعدما تضاعفت ميزانيتها الشهرية منذ سافرت.
في ظلّ غلاءٍ فاحشٍ لأسعار الشقق السكنية، بحسبِ أميرة، التي تُعاود تكرار حساب متطلباتها الأساسية بينها وبين نفسها وكأنّها تحفظها عن ظهرِ قلب، ما بين حسابات طرحٍ وجمع فلا يقطعها عن التفكير في دوامة الفواتير التي لا تنتهي إلا بالتواصل مع الأهل أو طلبات أطفالها من حولها.
أميرة، أمّ لثلاثة أطفال أصغرهم يبلغ من العمر 3 سنوات، نزحت إلى مصر في 10 أبريل/ نيسان 2024، بعد أن دفعت (12 ألف دولار أمريكي) لقاء خروجها مع أطفالها من غزة، هرباً من جحيم الحرب.
وبحسب تقديرات السلطات الفلسطينية والمصرية، بلغ عدد النازحين الفلسطينيين في القاهرة منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (150 ألفًا) وربما يكون العدد أكبر، فيما يعيش النازحون هناك أوضاعًا صعبة بسبب ارتفاع المصروفات الشهرية ما بين فواتير وملابس، ومأكل ومشرب، منهم من اضطر للعمل لكن المردود المادي بالعموم قليل جدًا مقابل المصروفات المطلوبة، حسبما قالوا.
نزحت أميرة منذ اليوم الأول للحرب من بيتها في خانيونس، وتكررت مرّات نزوحها، إلى أن استقر بها الحال في خيمةٍ برفح، وبعد بضعة أشهر من مأساتها في التعايش مع ظروف الحياة داخل الخيمة، قررت النجاة بنفسها وأطفالها.
تقول الشابة في حديثٍ لـ "آخر قصة": "كانت مغامرة أن تضع كل ما جمعته من مصاغ ومال في حياتك مقابل النجاة بروحك فقط، لكنني اضطررت لذلك ووافقني زوجي الذي استدان بقيّة المبلغ المطلوب وغادرت أنا والأطفال على أن يلحق بنا بعد وقتٍ وجيز؛ لكن اجتياح الاحتلال لمعبر رفح وإغلاقه حال بيننا فبقي هو في غزة بينما أنا والأولاد بالخارج".
ظلّت السيدة أميرة بمفردها تواجه صعوبات ومتطلبات الحياة، لكنها تعتمد بشكل تام على ما يرسله إليها زوجها من مصروف شهري، إذ يقدر بـ (400 دولار)، وأحيانًا يزيد ليصل إلى (500 دولار). تردف بتنهيدة أسى: "كان قرار الرحيل عن غزة وترك زوجي صعبًا جدًا، لكننا تحت تأثير الخوف من القصف العنيف، اتخذنا القرار أنا وزوجي، ودّعته مع العائلة وسافرت رفقة صغاري الثلاثة وحدي؛ لتبدأ معركتي الثانية مع تأنيب الضمير، والثالثة مع الغلاء الفاحش، وعدم قدرتي على مجاراة المصاريف المتزايدة".
تكافح أميرة لتوفير احتياجات أسرتها الكثيرة، وتصف رحلة البحث عن شقة سكنية في الغربة "وكأنّه حرق للمال"، إذ تتراوح أسعار الشقق داخل القاهرة بين (400_800 دولار أمريكي)، وكل حسب المواصفات، وقالت إنها استأجرت شقة في منطقة "فيصل" بمحافظة الجيزة، وصل سعر الإيجار فيها إلى (300 دولار أمريكي) وهي في حالةٍ كارثية، لكن رفض هذه الشقة سيضطرها دفع مبلغ أكبر لقاء إيجار شقة أخرى بمواصفاتٍ أفضل".
حاولت أميرة جاهدة، الموازنة بين متطلبات الحياة ومتطلبات أطفالها التي لا تنتهي، وعن ذلك قالت: "في بداية وصولنا للقاهرة، كان الأبناء يطلبون الوجبات الجاهزة بكثرة؛ مما شكَّل عبئًا ماليًّا على أكتافي، حتى أجبرتهم على تناول ما أطبخ في البيت وبدأت التعرُّف على أماكن شراء الخضروات وغيرها من الأطعمة، فخصصت ميزانية 100$ للغذاء فقط؛ ولكنها بالطبع لا تكفي، فاستغنيت عن كثير من الأشياء بغية التوفير في المصروفات".
لكن الاحتياجات لا تتوقف على توفير الغذاء فحسب؛ بل تمتد لفواتير أخرى كالكهرباء والمياه التي تصل فاتورة الواحدة منها (40 دولار) شهريًا، وبذلك يكون الإجمالي (80 دولار) شهريًا، فيما تضطر لدفع نحو (2 دولار) شهريًا لتأمين الغاز، إضافة لفاتورة الإنترنت التي تبلغ (3 دولارات) شهريًا.
أكدت أميرة أن المصروفات في بداية استقرارها في القاهرة كانت أعلى بكثير من الآن، إذ كان لزامًا عليها أن تشتري ملابس لها ولأطفالها الذين فقدوا كل ما يملكون في منزلهم المدمر؛ ما اضطرها -حينئذ- لإنفاق ما يزيد عن (250 دولارًا) دفعة واحدة.
ولأنّ أطفالها في عمر المدرسة، أُجبرت على عدم المغامرة بعامٍ آخر من عمرهم، فخاضت رحلة طويلة للبحث عن مدرسة تقبلهم، ولكن كل محاولاتها باءت بالفشل، بسبب عدم حصولهم على إقامة.
وتابعت أميرة حديثه لـ "آخر قصة": "وجدت بعد عناء مدرسة أكاديمية تهيئ الأطفال لدخول المدرسة، سجلت أطفالي الثلاثة سويًا مقابل مبلغ شهري يقدر بحوالي (60 دولارًا شهريًا)، وهو بالطبع ما شكَّل عبئًا ماليًا إضافيًا عليّ".
إضافة إلى كل ما سبق، ما تزال أميرة لا تستطيع السيطرة على المصروفات الشهرية بشكل كامل، حيث قد يطرأ عليهم حدث طارئ كمرضها أو مرض أحد الصغار؛ فتضطر لتخصيص ميزانية أخرى للأطباء والأدوية، تصل لنحو (20 دولارًا) زيادةً على مصاريف الشهر بحد أدنى.
وأكدت على أن المواصلات تأخذ قيمة لا بأس بها من المصروفات الشهرية، وكونها تعتمد على "الأوبر" وهو (Uber Shuttle) خدمات نقل بحافلات خاصة منعًا للازدحام، إذ تستخدمها بشكلٍ شبه كامل؛ فتضطر لدفع ما قيمته (دولارين) شهريًا، بينما تستخدم أحيانًا المترو كونه وسيلة نقل أوفر ولكنها تلجأ إليه حين تكون وحدها فقط، أما عندما تخرج صحبة أطفالها تستخدم "الأوبر"؛ خوفًا عليهم من الازدحام الشديد.
وقد ألقى السفر إلى مصر أو أي دولة أخرى على الغزيين أعباء اقتصادية إضافية لم تكن بالحسبان، وفقًا للمختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، الذي أشار إلى أن جزءًا كبيرًا من الغزيين اضطروا الاستدانة؛ ليستطيعوا توفير مصروفات التنسيق البالغة في أفضل الأحوال (5000 دولار للفرد الواحد) للخروج من غزة هربًا من ظروف الحرب.
وأكّد أبو قمر في لقاء مع "آخر قصة"، أن الكثيرين منهم تعطلّوا عن أعمالهم في غزة، ثم خرجوا ولم يجدوا وظيفة ثابتة، وإن وجدت تكون بمبلغ قليل لا يكفي لسدّ احتياجاتهم الأساسية؛ مما شكَّل عبئًا إضافيًا على كاهلهم، كون العديد من التزاماتهم بالخارج لم تكن موجودة في غزة، كالذين كانوا يقطنون بيوت ملك وأصبحوا يعيشون في شقق بالإيجار في الخارج وهو ما احتاج ميزانية ضخمة.
وطالب المختص الاقتصادي أبو قمر، أن تتولى الجهات الرسمية (السفارات)، بضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه النازحين الفلسطينيين الذين تقطعت بهم السبل، وتحديدًا مَن لا دخل ثابت لهم، ولا يستطيع العمل كالمرضى الذين خرجوا مجبرين للعلاج.
وبالعودة إلى أميرة التي تقف وجهًا لوجه أمام التحدّيات والعوائق التي تُطاردها، فقالت: "نحن نغبط؛ لأننا نجونا من الموت وظروف الحرب في غزة؛ ولكننا حقًا نواجه الحياة بوجهها الآخر هنا، ونخوض حروبًا أخرى في معترك الحياة أمام متطلباتها المتفاقمة".
في ظلّ تلك الظروف ما زالت أميرة تنتظر بفارغ الصبر وقف الحرب وعودة معبر رفح البري للعمل؛ لتلتقي بزوجها بعد أن فرقتهم الحرب لوقت طويل، دون التفكير بخطة مستقبلية لديهم بعد.
موضوعات ذات صلّة:
مغتربة فلسطينية نازحة