التكيّة: قِدر واحد لإخماد جوع آلاف الأمعاء

وسط احتياج ماس وغياب عدالة التويع

التكيّة: قِدر واحد لإخماد جوع آلاف الأمعاء

تجلس السيدة الفلسطينية نهلة خواجا على حجرٍ صغير أمام موقدٍ تقليدي تنفخ في النار؛ لكنّها لا تشتعل، فالحطب مغمور بالرطوبة نتيجة الأمطار. تُحاول إشعال موقد النار مرّة أخرى تحت قدرٍ بالٍ وضعته بباب خيمتها؛ بينما تُراوح نظرها نحو الطريق تنتظر قدوم صغيرتها التي ركضت مبكرًا لإحضار إناء طعامٍ من التكيّة (قدر من الطعام تصنعه المؤسسات الخيرية والمبادرات الإنسانية لإغاثة الأسر الغزيّة التي ترزح تحت الحرب)، علّها تظفر بشيءٍ "يُؤكل" هذه المرّة.

منذ ثمانية شهور تقطن الأرملة خواجا (47 عامًا) في هذا المخيم بدير البلح وسط قطاع غزة، بعدما نزحت عدّة مرات حتى استقر بها الحال في هذا المكان الذي لا ترى فيه إلا خيام بالية على مدّ البصر ووجوهٍ شاحبة، وأطفال يركضون على صوت سيّارة مياه، أو عربة كارو تحمل قدرٍ من التكيّة؛ بينما يتجلى البحر من أفقٍ قريب يبدو غريبًا وسط هذه الحالة المُضنّية التي تعكس واقع نحو مليوني إنسان في غزة، تبدّلت أحوالهم جرّاء الحرب الإسرائيلية وأصبحوا يعتمدون على طعام التكايا اعتمادًا أساسيًّا.

نهلة التي فقدت الكثير من وزنها وأخذ لون وجهها الذي تكسوه الهالات السوداء شيء من لون قِدرها المشحر، تقول: "يذهب الصغار صباحًا للاصطفاف في طوابير انتظار قدوم التكيّة، فإذا تأخروا على الوصول قد لا يتمكنوا من الحصول على شيء، فيعودوا حزانى بأواني فارغة، على الرغم من أنّ الطعام في معظم الأيام قد لا يليق بالقطط لكننا مرغمين على تناوله فلا بديل في ظلّ ارتفاع الأسعار الجنوني".

التكية وليدة الحرب

التكيّة هي فكرة مستحدثة على قطاع غزة ووليدة الحرب، فلم يعهد الغزيون وجودها من قبل أبدًا، أما اليوم أصبحوا يعتمدون عليها مجبرين؛ إذ أصبحت مصدر طعامهم الرئيسي في ظلّ أزمة الطعام غير المسبوقة التي عصفت في القطاع، خاصّة في ظلّ الغلاء الفاحش للمواد التموينية الأساسية والخضروات واللحوم.

وبحسب منظمة العمل الدولية، فإنّ الفقر في قطاع غزة أصبح حالة عامة بفعل الحرب، إذ يعيش ما يقرب من 100% من سكانه في حالة فقر، فيما تضرر حوالي 80 إلى 96% من القطاع الزراعي بما يشمل مزارع الماشية والأراضي الزراعية؛ مما نتج عنه عدم القدرة على إنتاج الغذاء، وارتفاع نسبة انعدام الأمن الغذائي.

وبالعودة إلى نهلة خواجا، التي عانت كثيرًا وأبنائها الأربعة في ظلّ الأزمات الغذائية التي توالت على القطاع منذ أشهر، لاسيما الحرمان من الدقيق، تقول: "منذ شهور نعيش بلا دقيق وإذا توفر يأتي بكمياتٍ قليلة جدًا، فاضطررنا لتناول المكرونة والأرز بديلاً عن الخبز، وفي مرّات أخرى كنا نضطر لشراء الخبز بالرغيف ونقتسم الكمية حصص لكل فرد".

تبتلع المرأة دمعة اغرورقت في محجر عينيها، وهي تصف كيف بدأت طفلتها ذات العامين ونصف العام الكلام بطلب الخبز منها، فيما هي لا تستطيع توفيره، تردف: "أيام قاسية ومريرة أصبحنا نشتهي فيها الخبز والطعام، ولا نتمكن من شرائه، فأصبح معظم اعتمادنا على التكيّة التي توفر أصناف محدودة وغير ذي جودة، مكرونة، عدس، فاصولياء، وأحيانًا أرز، وغالبًا لا يكون الطعام كافٍ لكل الأسر في المخيم".

يتقاطع حديث السيدة حول عدم كفاية الطعام المُقدم من التكايا مع ما أكّده الناشط في المجال الإغاثي أدهم أبو سلّمية الذي أشار إلى أنّ حجم الاحتياج لطعام التكيّة في قطاع غزة كبير جدًا، إذ يعتمد الآلاف من الناس عليها فيما تظهر الحاجة واضحة من خلال مشاهد النازحين الذين ينتظرون لساعاتٍ طويلة للحصول على وجبة طعامٍ أمام التكايا الخيرية.

وقال أبو سلمية في حديثٍ إلى "آخر قصّة" إنّهم يلمسون هذا الاحتياج العالي، من خلال زياراتهم الميدانية، "نرى عائلات تبدو عليها الفاقة الكبيرة، تكون لم تتناول وجبة طعام كاملة منذ أيام، كما يتجلى بوضوح حجم انتشار الأمراض المرتبطة بسوء التغذية وفقر الدم في وجوه النازحين".

ويبدو مشهد تدافع الناس على التكية مهينًا وبائسًا إلى الحدّ الذي يشكل انتهاكا للكرامة الإنسانية لاسيما أنه يترافق مع عملية توثيق إعلامي لمشهد غير أدمي، فيما أثبتت غزة بالبرهان، أنّ الجوع يقتل صاحبه، وحدث بالفعل، بشكلٍ يتنافى مع المثل الفلسطيني الراسخ "ما حدا بموت من الجوع"، لكن هذه المرّة جاء نتيجة الجوع والتدافع معًا، بشكلٍ ربما لم يحدث من قبل، إذ لقي الطفل عبد الرحمن نبهان (5 أعوام) حتفه، بعد سقوطه في قدرٍ للطعام، أثناء التدافع أمام التكيّة؛ ما أصابه بحروقٍ بالغة أدّت إلى وفاته.

فيما توقفت بعض التكايا عن عملها إثر ازدحام الناس والتدافع الشديد عليها، وما يترتب عليه من مشاكل تنشب بين المصطفين في الطوابير المزدحمة؛ مما فاقم من أزمة الاحتياج لدى العائلات التي تعتمد بشكل كامل على التكايا.

وعلى شاكلةٍ أخرى من الجوع، ما زال (96%) من سكان غزة، وفقًا لتقرير صدر عن الأمم المتحدة، يعانون انعدام الأمن الغذائي الحادّ، فيما يتضور واحدًا من كل خمسة من أهالي القطاع جوعًا.

تدخل المساعدات الغذائية إلى قطاع غزة عبر التنسيق بين المنظمات الدوليّة والفِرق المحليّة، ويُوزَّع الغذاء من خلال إدخال شاحنات الإغاثة من مصر والأردن والضفة الغربية، وفقًا للناشط في المجال الإغاثي أبو سلمية، الذي أشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يضع عراقيل كبيرة على نوعية وكمية المساعدات التي يُسمَح بدخولها فيما يمنع الكثير.

في السياق ذاته، أغلقت العديد من التكايا أبوابها لفترة، إثر منع قوات الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية والبضائع من الدخول لقطاع غزة بالشكل المطلوب، فلم يعد لدى المبادرات الإغاثية القدرة على تلّبية احتياجات السكان لعدم قدرتها على توفير مكونات الأطعمة.

عدالة التوزيع!

وأمام قلّة تدفق المساعدات وتحدّيات دخولها، اشتكى نازحون من سوء عدالة توزيعها جنوب قطاع غزة الذي لا تصل المساعدات والدقيق لنازحيه بشكلٍ منتظم،  وسط تغيّب الرقابة من الجهات الرسمية على كيفية توزيع المساعدات عبر القنوات والجهات التي تتولى هذه المهمة.

في الإطار، قالت وزيرة التنمية الاجتماعية سماح حمد: "إن التنمية تواصل العمل الدؤوب لضمان تدفق الطرود الغذائية لغزة، إذ قدمت مساعدات غذائية لـ 350,000 أسرة في غزة خلال العام المنصرم".

وبيّنت أن الوزارة تعكف على إنشاء سجل طارئ يضم العائلات الفلسطينية، بالتنسيق مع المؤسسات الدولية، قائلة: "الجهود تستمر لضمان وصول المساعدات الإغاثية لمستحقيها".

ووسط شكاوى المواطنين بأن الجهد الوزاري المقدم لا يرقى للمستوى المطلوب. حاولت مراسلة "آخر قصة" الوقوف على دور وزارة التنمية الاجتماعية في الرقابة على آليات توزيع المساعدات على النازحين بشكلٍ عادل، وأجرت اتصالات عديدة مع إدارة الوزارة بغزة، ولكن تعذر الحصول على رد بعد مماطلة الجهة عن الردّ.

رائدة حرارة (44 عامًا)، أم لستة أفراد ونازحة في منطقة مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، اشتكت من عدم عدالة توزيع المساعدات في المخيم الذي تقطن فيه، تقول: "في كثير من الأحيان يستفيد جيراني من الطرود الغذائية، ولا استفيد أنا، فيأتي المسؤول ليوزعها على معارفه، وباقي المخيم لا ينال نصيبه بحق الله، كما تأتي للمخيم وجبات أرز باللحم، لكن أنا يصلني الأرز فقط".

ولا تستغني السيدة عن طعام التكيّة مطلقًا، وتضطر لإرسال أبنائها إلى أكثر من نقاط لتوزيع الطعام "تكايا" قريبة من محيطها حتى تستطيع توفير ما يكفي لوجبة غداء عائلتها. تقول: "التكايا أنواع، منها تكية المطبخ المركزي العالمي، هذه ممتازة وتقدم أكلات نظيفة ومذاقها طيب، ولكن الازدحام عليها كبير جدًا، نذهب إليها بحجز بطاقات، نشتري البطاقة بـ 2 شيكل مقابل طبق واحد، ولا يستطيع الفرد الواحد أن يستفيد إلا من وجبة واحدة، لكن هناك أنواعًا أخرى أقل جودة وطعمها ليس بالمستوى المقبول".

في الأثناء، تشير إسراء فروانة، مسؤولة مركز سنابل الخير التطوعي الشبابي، (جهة محلية تقوم على توزيع المساعدات الإنسانية للنازحين جرّاء الحرب بما فيها التكايا)، إلى أنّها تحاول وفريقها تقديم الطعام لأكبر قدر ممكن من المواطنين في القطاع.

وأضافت فروانة في سياق حديثها لـ"آخر قصة": "شُح الطعام وعدم دخول كافة الأصناف الغذائية، وضعنا في مأزق كبير، فاقتصر طعام التكيات على الأرز والفاصولياء والعدس وغيرها من البقوليات".

وأكدّت أن مبادرتها تقدم الطعام الإغاثي لعدد من مراكز الإيواء في مدينة غزة، إذ أن لديهم 3 مطابخ، كل واحد منهم يقدم 10 قدور من الطعام، ويغطي 5000 عائلة، فيما يعتمد الكثير منهم في غذائه على التكية بشكلٍ كامل نظرًا لغلاء الطعام الموجود بالأسواق إن توافر.

وترى فروانة أن تكايا الطعام عملت على حلّ إشكالية كبيرة لدى الكثير من العائلات، مؤكدة أنّهم يراعون جودة الطعام المقدم ويهتمون بشدّة باتباع معايير السلامة والجودة والنظافة.

وفي أزمة عدم توفر الدقيق وغلائه الباهظ، التي عصفت بجنوب القطاع في الشهور الأخيرة، استطاعت السيدة "حرارة" أن تشتري كيس طحين بـ 550 شيكل أيّ ما يعادل 150$ تقريبًا، وقسمته مناصفة مع عائلة أخرى، تضيف: "أثناء شُح الدقيق، طحننا العدس والمعكرونة وصنعنا منه الخبز، كان طعمه سيء، حتى وزعت الأونروا علينا كيس دقيق طارئًا لكل عائلة، ولم نأخذ غيره، فأصبحنا نأكل الخبز ونقسمه بيننا إلى حصص يومية".

بينما زاد تأخر دخول الدقيق والوقود إلى القطاع حدّة مستويات الجوع، وفقًا للأونروا، التي أشارت إلى أنّه يترك عددًا لا يُحصى من الغزيين دون أن يحصلوا على خبز. في ظلّ تلك الظروف ارتفع سعر كيس الدقيق الذي توفر بندرةٍ بالغة في جنوب القطاع لما يزيد عن مئتي دولار للواحد منه، بعدما كان سعره لا يزيد عن 3 دولارات قبل الحرب.

وفي ظلّ ذلك الغلاء، انتشر الدقيق الذي ظهر فيه السوس، وهناك الكثير من السكان اضطروا لشرائه فيما وقع بعضهم في فخ شراء الدقيق على أنّه سليم فيما هو مغشوش، ومنهم ياسر عليان، الذي ينزح في منطقة القرارة بخان يونس، يقول: "تداينت مبلغًا من المال لأشتري كيس طحين بـ 500 شيكل، وبالفعل اشتريته، وبينما أطفالي يحتفلون لأنهم سيأكلون الخبز، وإذ بالطحين يملأه السوس، ومخلوط بالشيد".

في تلك اللحظة كادّ الرجل أن يُصاب بسكتةٍ قلبية من الصدمة كما قال، فيما هو يعاني وضعًا صحيًا صعبًا بعدما فقد ما يُقارب 15 كيلو من وزنه، فتناقصت أغلب الفيتامينات في جسده النحيل؛ مما أثر على صحته سلبًا، فلم تعد قدماه تحملانه للمشي مسافاتٍ بعيدة لتوفير احتياجات أسرته اليومية من ماءٍ وطعام.

تجويع ممنهج

وعلى إثر ذلك، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين للفلسطينيين "الأونروا" عن منح الأسر النازحة جنوب قطاع غزة كيس دقيق واحد بشكلٍ طارئ للتخفيف من الأزمة، ريثما تحصل كل أسرة على حصتها من الدقيق حسب عدد أفرادها في دورةٍ أخرى.

من جهتها، قالت مديرة إعلام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين للفلسطينيين "الأونروا" في غزة إيناس حمدان، "إن الأونروا ما زالت تعمل في ظلّ الظروف المأساوية التي تعانيها غزة، وعلى الرغم من انخفاض وتيرة إدخال المساعدات الإغاثية خلال الأربعة أشهر الماضية، إلا أنها تحاول تلّبية احتياجات السكان الغذائية من الشاحنات القليلة التي يسمح الاحتلال بدخولها".

وأكدت حمدان في حديثٍ لـ "آخر قصة" أن المعضلة الأكبر التي تواجه "الأونروا" عدم توافق عدد الشاحنات التي تدخل لغزة مع عدد السكان وخصوصًا في جنوب غزة، وهنا تحدث الإشكالية التي لا حلول لها، فيبدأ التوزيع في دورات متتالية لكن لا يمكن تغطية 2 مليون ونيف مواطن.

يتراوح ما يدخل للأونروا في قطاع غزة، بحسب حمدان، ما بين 30_60 شاحنة يوميًا، وهذا عدد قليل جدًا مقارنة بما قبل الحرب، مؤكدة أنه في أكتوبر المنصرم لم يتسلم ما يقارب 1.4 حصصهم الغذائية من "أونروا"، وفي نوفمبر 1.7 من السكان لم يحصلوا على أيّ مساعدة من الوكالة.

وقد واجهت عملية توزيع كيس الدقيق الطارئ على كل الأسر النازحة جنوبًا تأخير طويل إذ ما زالت مستمرة من مطلع ديسمبر الماضي حتى اليوم في هذه الجولة، وبحسب حمدان، تواجه "الأونروا" معيقات عديدة إلى جانب عدم سماح الاحتلال بإدخال أغذية ومستلزمات أخرى بالشكل الكافي، كما ساهمت السرقة وعمليات النهب الممنهجة التي تتعرض لها شاحنات المساعدات في تأخير عمليات التوزيع الطارئة المعتادة، وتقليل عدد المستفيدين نظرًا لقلة الموارد.

في الإطار، طالب ناشطون في المجال الإغاثي، الاحتلال الإسرائيلي باعتباره القوة القائمة بالاحتلال، تحمل مسؤوليته القانونية والإنسانية عن توفير الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين، والمجتمع الدولي إلى توفير التمويل وتأمين دخول الإمدادات الغذائية، والسلطات المحلية في غزة بتحسين آليات التوزيع وضمان وصول المساعدات بشكلٍ عادل وشفاف.

فيما اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش إن "إسرائيل" تستخدم "التجويع كسلاح حرب في غزة"، وهو ما لا يجوز وفقًا للمادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنصّ على أنه: "من واجب الاحتلال أن يعمل، بأقصى ما تسمح به وسائلها، على تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية، ومن واجبها على الأخص أن تستورد ما يلزم من الأغذية والمهمات الطبية وغيرها إذا كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية".

وطبقا لدراسات قانونية محلية، فإنّ ما تمارسه "إسرائيل" من حظرٍ دخول المواد الغذائية لسكان قطاع غزة، تحت وطأة الحرب، هو انتهاك للمواثيق الدولية التي تنصّ على منع العقاب الجماعي، وسياسة التجويع نموذجًا، وبحسب اتفاقية جنيف الرابعة فإنه يُحظر منع دخول المواد الغذائية ومقومات الحياة الأساسية بشكل عام.

 

مواضيع ذات صلّة:

- معلومات صادمة عن أزمة الجوع في غزة

- كيف مرّ عام 2024 على الفئات الهشة بغزة؟

- على شفا الهاوية: الجوع ينهش أمعاء الأطفال

- أونروا: مليونا نازح بغزة يحاصرهم الجوع والعطش والمرض

- سوء التغذية والهزال والأمراض المعدية.. هذا حصاد الجوع في غزة