مذ قرعت طبول الحرب في غزة أكتوبر 2023 والتي تقطع الآن شهرها الخامس عشر، وهناك حالة من اللا معلومة إن جاز تسميتها بذلك. أي بمعنى المعلومة الموثقة، من مصدر يثق به الغزيون.
ما زلتُ هناك عند اللحظة التي استيقظت فيها غزة على أصوات الانفجارات وحالة الركض خلف سبب الانفجارات وملاحقة الأخبار واللهاث خلف خبر واحد يفيد بسبب وهدف الانفجارات، والبحث خلف الخبر الحقيقي لأكثر من ساعة ونصف من مشهد سيريالي عبثي غير مفهوم. شبابيك يعتليها المستيقظون من النوم مرتديًا لباس النوم بشعرٍ منكوش بتثاؤبٍ وخوفٍ وصراخ يسأل الجميع عن سبب الانفجارات وأخبار متضاربة عن اغتيالات وأسماء متلاحقة، وتعليق الدوام في المؤسسات، والجميع يركض بلا أيّ هدف والسماء رمادية ورائحة الصباح بارود.
استمرّت هذه الحالة لفترة، لم يكن يفهم الغزي بعد شكل وماهية هذه الحرب وتوجيهاتها التي اعتمد فيها على اتصالات الإخلاء وتهديدات جيش الاحتلال، دون مصدر وطني يرشد الناس التي تبحث عن خبر صحيح.
لقد اعتمد الجميع على تناقل الخبر وفق الخبرة السابقة للتصعيدات أو الحروب السابقة التي مرّت على غزة. إذ يسيطر على بداية الخبر المتناقل جملة (بيقولوا) لتبدأ رحلة البحث عن أصل القائلين وهويتهم وتأثير قولهم في المشهد العام وحالة التيه القائمة.
أهداف "المعركة" التي سبقت إليها المقاومة الفلسطينية، بادعائها أنها صاحبة القرار الأوحد في الساحة الغزيّة، وأن هذا الفعل هو ردّ فعل للاستفزازات الإسرائيلية على المسجد الأقصى والقدس، وفق ما ورد في الخطاب الأول، والذي تبنى هدف أكبر تحت مسمى (حرب التحرير) ليبدأ السؤال:
أيّ حرب تحرير دون جهوزية، دون تدريبات واضحة، دون مصدر موثوق يرشد الغزي الملقى على عتبة الباب عن سبب وهدف المعركة التي انطلقت وإلى أين ستأخذه؟
لم تكن هناك إجابة، حتى لحظة الدهشة في الفعل، فعل الاقتحام، كانت غير مفهومة. الغزي شارك في ملاحقة الأحداث عبر الشاشات التي شكلت إليه فسحة جيدة، لاكتشاف ما بعد السلك الشائك للحصار المفروض عليه. أيّ لم يكن هنالك وعي حقيقي بطبيعة الهدف، لقد كان الغزي مجرد أسير اللحظة التي فرضتها سياسة المقاومة على الواقع بشكلٍ عام دون الالتفات إلى حق الغزي المحاصر المسلوب من حقوق المعلومة كأدنى حق.
الإجابات كلها حول السؤال عن مصدر المعلومة، جاءت معتمدة على مصدر التأويل والتهويل وامتلاك خزان وقدرات كاملة من الإمدادات ووعود بالتحرير وتحليلات قناة الجزيرة والميادين ودويرها وعصافيرها وخبرائها الاستراتيجيين لواقع غزة غير المؤهل أصلاً لخوض معركة متكافئة في أبسط مستوياتها. وقنوات إعلامية تجد في المعركة والحرب مادّة جيدة لإثارة الرأي والرأي الآخر على حساب تغييب مصدر مطلّع يرشد الغزي حول طبيعة المعركة وإلى أين تأخذنا؟
ليصير مثلاً (كوافير سمر) ملجئاً وملاذاً جيداً ومناسباً لتأويلات وتحليلات الواقع الغزي. إنه عنوان لمجرد صفحة عبر (الفيسبوك) في تعريفها الخاص (كل ما يختص بالصحة والجمال). ليبدأ من خلالها مسار العبث الأول بحالة من "الهبد" غير المفهوم، ما علاقة كوافير تهتم بالصحة والجمال بالتحليل السياسي والعسكري للمعركة، ليسيطر على الواقع الغزي أنّ سمر هي مصدر متناقل ومتداول في الحديث اليومي الغزي.
كيف ولماذا حدث هذا؟!
الإجابة تكون أن الغزي لم يُحط بتلك المصادر التي تهول من حالة الحرب والتي لم تراعي واقعه وتحاول صناعة مشهد خاص بالمشاهدين والمتابعين وجمهور المصفقين الباحثين عن أسباب انتصارات صغيرة لمن خارج المعركة ولا يعيشون تفاصيلها المرعبة. فتُرِك الغزي لِحظّه بالبحث عن مصدر يشاركه الواقع.
سمر هي الصورة الرديفة عبر صفحتها وعنوانها لمحلّ صغير في حي غزي شعبي بسيط يُشكل مصدر أمان اقتصادي لإحدى سيدات الحي خريجة الدورات الخاصة بالمكياج والقص. يرتاده الجميع في الحي، وهو مضطر ليراعي عبر سياسته المالية الخاصة والبسيطة الظروف الاقتصادية للطبقات الاجتماعية في الحي، إذ لا تسعيرة ثابتة لقص الشعر مثلاً أو تهذيب الحواجب.
هي سيدة يعاملها الحي على اعتبارها خبيرة التجميل الأولى والتي تنافس (makeup artist) العالمية. كما أنّها تُميِّز الفارق بين الماركات وألوان الصبغات تعتمد في الغالب على إحساسها الخاص وبمزاجها المرتبط بالظروف وتقنع الزبونة بسهولة. وتثق بها نساء الحي وتعدّ مصدرهن الوحيد لوصفات تكثيف الشعر وتفتيح البشرة بالنشا والكركديه والبابونج دون التفات لمصدر طبي، تعتمد فقط على عنصر التسويق وخبرتها باكتساب الثقة من النساء في الحي.
مع أن مشهد المحل لا يوحي بطبيعة المسمى والدلالة التي تكتسبها سمر من زبائنها وجمهورها وفق المقاييس العالمية هو مجرد مكان شعبي بسيط فيه جهاز استشوار ثابت بأقساط قديمة، لا تستطيع سمر تسديد أقساطه فالحال المادي بسيط، بضاعة سمر مصدرها البائع المتجول عبر المحلات، تدخل إلى سمر في محلها البسيط هذا بينما تتناول وجبة الفلافل الوحيدة التي استطاعت أن تقتنصها نتيجة الازدحام رغم أن المحل به صديقات يتشاركن الحديث اليومي ويتبادلن الخبرة البسيطة بألوان المكياج والفارق بين المكياج الخليجي واللبناني وغيره عبر الصور المتناقلة. تتجاهل سمر حاجتها لإكمال وجبة الفلافل لتبدأ باستقبالك، وربما يكون استعدادها بتأهيل طبيعة المحل لاستقبال زبونة جديدة ببقايا زيت فلافل بيدها، لكن الجميع يطمئن للظروف الصحيّة حتى بالمحل.
تنجز سمر مهمتها بأسرع وقت لتثبت للجميع بأنّها امرأة مستقلة مجتهدة حريصة على تسديد ديونها عبر اكتساب ثقة زبائنها بذوق وألوان المكياج. وحتى في فترة الركود لسمر خبرة خاصّة بالعروض على تهذيب الحواجب وصبغ الشعر. ليصير المحل مركزاً لملاحقة الأحداث السياسية والاجتماعية ومصدرها هو الثقة التي تؤكدها عبر جملة واحدة:
"فلانة هي زوجة فلان مسؤول أمني وذو علاقة بالسلطة، زبونتي الدائمة" لا تخفي عليها سراً بشأن الرواتب عبر المؤسسة العسكرية ونية الاحتلال بالتصعيد، ونوعية البضائع التي يسمح لها بالدخول عبر المعبر وحتى أسعار صرف الدولار والفارق بين السوق السوداء والبنك.
الجميع يعرف أن زوج فلانة هو ممكن شرطي مرور أو فرد أمن في مؤسسة حكومية ما.
سمر مطلعة وفق مصادرها الخاصة، وهي زوجة المسؤول أيضًا، لكن من يجرؤ على التشكيك بسمر ومصدرها، لقد ذكرت اسم السيدة زوجة السيد زبونتها الدائمة والمعروفة في الحي، لا أحد يستطيع نفي الصدق عن الرواية التي يكون مصدرها ربما صديقة زوجة عضو مجلس بلدي ما.
من يمتلك الجرأة؟ لنفي موعد المنحة القطرية مثلاً، ونيّة المقاومة بصدّ الاحتلال وقدرتها على ملاحقة العملاء والجواسيس، وحتى ردع أيّ حالة انتقاد بشأنها وشأن الحكومة.
ليشكِّل هذا المحل البسيط مركزاً إعلامياً موثوق به لفترة طويلة.
ويتجلى ظهوره أكثر خلال الحرب مؤخراً، والتي حاولت فيها سمر بث الأخبار التحذيرية عبر الصفحة عن احتمال بدأ حرب على غزة ومنشوراتها التحذيرية التي تعامل معها الجميع بسخرية حيث الجميع يعرف طبيعة الصورة الرديفة لتلك الصفحة بالواقع، أو ربما لم يجربوا لحظة ثقة سمر بإخبارهم حول صحة الخبر من عدمه ومصدره زوجة المسؤول زبونتها (الدفيعة) التي لا تبخل على نفسها وتكرم سمر بزيادة عشر شواكل على التسعيرة. وكأنّ الفارق هذا يمنح لسمر مكافأة لجهدها لبث الأخبار وفق المصدر المُطلِّع.
مع صدق تحذيرات سمر التي بثتها عبر الصفحة خلال يوليو 2023 أيّ قبل بدء الحرب بثلاثة شهور بدأت سمر تأخذ مساحة حضور في الحديث اليومي الغزي فأصبحت منشوراتها مصدر معلومات موثوق ومتبادل، وهي الصورة الرديفة للتعبير الشعبي البسيط عن الأحداث. رغم تداولها بسخرية لكنها تبدو مصدراً هاماً في زمن غياب المعلومة الموثوقة. حيث تشارك جمهورها اهتماماتهم وقضاياهم المثارة في الشارع الغزي فتجدها تستدل بآياتٍ قرآنية حول ما تسميه "الانتقام الإلهي من حرائق كاليفورنيا وأنه ردّ إلهي على توعد ترامب بشأن إنهاء الحرب!".
وتلك الحالة لو طرحت على أرض محل سمر الصورة الرديفة لوجدت لها مؤيدين ومبتهلين بالدعاء على صديقة إسرائيل أكثر فأكثر.
سمر التي تلاحق كل أخبار واهتمامات الشارع حتى نقمتهم من تصريحات الناطقين بأسماء الفصائل، فتجدّها مُعبرة جيّدة عن اهتمامات الشارع وكأنّها تُلبي طموحات التعبير عن الواقع بهوية مجهولة لضمان عدم الملاحقة الأمنية التي مورست بحق كثيرين ممن انتقدوا سلوك "س" وناطقيها بشأن غزة وظروفها.
سمر في صورتها الرديفة تجدّها ذات خبرة في إثارة القضايا ذات البعد المسحي لطبيعة الظروف فتراها تسأل حول طبيعة حسن معاملة النزوح وفق خرائط النزوح جنوب الوادي موزعة بين رفح وخانيونس ودير البلح، رغم أن الجميع مدرك لطبيعة النزوح وفكرته المرعبة؛ إلا أن الجميع يشكل لسمر حالة من الإجابة التي تلزمها كدراسات مسحية في منشورات لاحقة. وهي أيضاً ليست ببعيدة عن الواقع إذ يتداول الجميع حالة من المقارنات عن طبيعة بيئات النزوح وظروفها المختلفة بين المحافظات الثلاث التي صنفها الاحتلال مناطق نزوح منذ منتصف أكتوبر 2023.
وهي مهمة لإثارة النقاش الذي بات يؤنس قلق الغزيين وخوفهم خلال الحرب عبر شبكات التواصل الاجتماعي وحديث مجموعات الواتساب العائلية والأصدقاء.
ومن ثم بدأت تنتشر كفسحة غزية خاصّة ومصدر مهم وعنصر ثقة عبر مصادرها التي بات الجميع يُصدِّقها رغم تندره بالسخرية منها. في إحدى المرات تنبهت لحديث جارات النزوح صباحاً إذ تقف كل واحدة ببابها يتناقلن الأخبار عبر مصادرهن وفق فعل (بيقولوا) خبرة الغزي الأساسية في الحروب كلها، ليظهر تساؤل من إحداهن: ماذا تقول كوافير سمر؟!
تشكل سمر مصدر إخباري معلوماتي متداول في الشارع الغزي خلال الحرب وهو مؤشر طبيعي للتعتيم الإخباري بظروف المفاوضات والاشتباكات التي ترك فيها الغزي يُواجه مصيره وحده بالبحث عن مصدر موثوق. وتعلن سمر عبر صفحتها في أواخر أيام الحرب بينما الجميع ينتظر أخبار الهدنة والصفقة المحتملة عن (نتف الحواجب لأهل الشمال والجنوب، بينما تحرم أهل الوسطى من العرض)، ليدور السؤال عن خبرة سمر بإزالة الحرب تماماً بالليزر، وهل تمتلك سمر خبرة عالية بذلك أم أنّها ستخبرك بمخاطر الليزر وتكتفي بأدواتها البسيطة في إزالة الخراب والدمار من يوميات الغزي.
لتوثق تلك المرحلة تحت عنوان: (رحلة الغزي من التحرير، إلى عروض إزالة الحرب بالليزر).
الوصول للأخبار في غزة