يجلس محمود (50 عامًا)، أب لسبعة أبناء، بجوار برميل معدني في مخيم للنزوح شمال قطاع غزة، يراقب خيوط الصدأ التي تغطي سطح البرميل الذي يملؤه بمياه شديدة العكارة. هذه المياه، الملوثة بالطين والبكتيريا والمخلفات الصناعية، هي كل ما يستطيع محمود وأسرته الحصول عليه للشرب والطهي والاستحمام.
يقول محمود بحسرة: "أعلم أن هذه المياه قد تقتلنا ببطء، لكنها الخيار الوحيد أمامنا. في هذا المكان، النظافة رفاهية لم نعد نعرفها منذ وقت طويل".
ويعاني ملايين الأشخاص في مناطق النزاع حول العالم، من أزمة حادة في الحصول على مياه نظيفة وآمنة. ووفقًا لتقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية (WHO) واليونيسف في عام 2022، فإن أكثر من 785 مليون شخص يفتقرون إلى المياه النظيفة، ويعيش الكثير منهم في مناطق نزاع مثل اليمن وسوريا وقطاع غزة وأجزاء من أفريقيا. في تلك المناطق، أصبحت المياه الملوثة سببًا رئيسيًا لتفشي الأمراض المعدية، مثل الكوليرا، التي تهدد حياة السكان، خاصة الأطفال وكبار السن.
في قطاع غزة على وجه الخصوص، يعاني حوالي 97% من المياه الجوفية من التلوث بمستويات عالية من النترات والكلوريد، ما يجعلها غير صالحة للشرب، بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2023.
الفئات الهشة، بما في ذلك النساء والأطفال وكبار السن والأشخاص ذوو الإعاقة، هم الأكثر تضررًا من أزمة المياه. في مخيمات النزوح المنتشرة في مناطق مختلفة من قطاع غزة منذ أكثر من 14 شهراً بفعل الحرب، ويعتمد السكان على المياه التي تجلبها المنظمات الإنسانية أو المبادرات الفردية وهي لا تخضع لعملية تنقية دقيقة في ظل نقص المعدات اللازمة لمحطات تحلية وفلترة المياه.
هدى (35 عامًا)، أم لأربعة أطفال تعيش في مخيم للاجئين في جنوب قطاع غزة، تصف معاناتها اليومية للحصول على المياه: "أقطع مسافة كيلومتر يوميًا لجلب المياه من خزان قريب. أحيانًا تكون المياه عكرة وذات رائحة غير مقبولة، لكنها كل ما نملك. أطفالي يعانون دائمًا من الإسهال والحمى، لكننا لا نملك خيارًا آخر".
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن 80% من الأمراض في مناطق النزاع ترتبط بالمياه الملوثة. تشمل هذه الأمراض الكوليرا، والتيفوئيد، والإسهال المائي الحاد، وهو أحد الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال تحت سن الخامسة في هذه المناطق.
يقول الطبيب محمود عمر، أخصائي الصحة العامة: "شرب المياه الملوثة يؤدي إلى سلسلة من المشكلات الصحية، تبدأ بالتهابات المعدة والأمعاء، وقد تصل إلى أمراض مزمنة مثل الفشل الكلوي. الفئات الهشة هم الأكثر عرضة للخطر، إذ يفتقرون إلى المناعة الكافية للتصدي لهذه الأمراض".
ويحذر الطبيب عمر من خطورة استمرار شرب المياه الملوثة لدى شريحة واسعة من سكان قطاع غزة وبخاصة في ظل الفقر المدقع الذي يعانونه مما يعجزهم عن شراء المياه المحلاة، وهو أمر يقول إنه ينذر بزيادة احتمالات الخطر المحدق بصحة السكان.
تعاني مناطق النزاع بما فيها قطاع غزة من غياب واضح للقوانين الرقابية المتعلقة بإدارة الموارد المائية. رغم أن القانون الدولي الإنساني، وخاصة المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، يُلزم أطراف النزاع بعدم استهداف الموارد المائية، إلا أن الواقع يُظهر عكس ذلك تمامًا. في العديد من الحالات، تُسْتَهْدَف محطات تحلية المياه أو تدمير شبكات المياه كوسيلة لإضعاف السكان.
يشير تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2023 إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يمنع إدخال المعدات اللازمة لإصلاح محطات تحلية المياه. وقد ضاعف هذا الأمر من معاناة السكان المدنيين. وتظهر دراسة أعدتها منظمة اليونيسف في عام 2021 أن 1 من كل 3 أطفال حول العالم لا يمكنهم الحصول على مياه شرب آمنة، مع تركيز كبير على مناطق النزاع. فيما تشير دراسة أخرى صادرة عن جامعة ستانفورد إلى أن أزمة المياه الملوثة قد تؤدي إلى وفاة أكثر من 1.6 مليون شخص سنويًا، معظمهم من سكان مناطق النزاع.
ولمواجهة أزمة المياه الملوثة في قطاع غزة، يؤكد المختص البيئي وسام عبد الحميد، على أهمية التدخلات السريعة والفعالة، والتي من بينها إنشاء محطات متنقلة لتحلية المياه: يمكن لهذه المحطات أن توفر مياهًا نظيفة في المناطق المدمرة ومخيمات النزوح.
كما أشار عبد الحميد إلى أهمية تطبيق القوانين الدولية، بما يساهم في الضغط على أطراف النزاع لاحترام القوانين الدولية التي تحمي الموارد المائية. مؤكدا على أهمية زيادة التمويل الدولي، وتخصيص المزيد من الدعم المالي لإنشاء بنية تحتية مائية مستدامة نظراً لحجم الدمار الواسع الذي خلفته الحرب في قطاع غزة.
ولفت أيضاً إلى أهمية وجود دور رسمي عبر وزارة الصحة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، لأجل تعزيز الوعي الصحي، عبر تنظيم حملات توعية للسكان حول كيفية تعقيم المياه باستخدام الوسائل البسيطة مثل الغلي أو استخدام أقراص الكلور.
وبالعودة إلى قصة محمود، وهو يعبئ كوبًا من المياه الملوثة لابنه الصغير: "كل رشفة من هذه المياه قد تكون قاتلة، لكن ما باليد حيلة". قصة محمود هي واحدة من بين آلاف القصص التي تُظهر معاناة الفئات الهشة في قطاع غزة كمنطقة نزاع، في الوقت الذي لابد أن يعي الجميع أن الوصول إلى المياه النظيفة ليس ترفًا، بل حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، وغيابه يعكس حجم الكارثة التي يعيشها هؤلاء السكان يوميًا. وعلى العالم أن يتكاتف لإيجاد حلول لهذه المأساة المستمرة، حتى لا يُضطر الناس إلى شرب الموت كل يوم.
مياه الشرب غزة