روزانا غزة: حلم النجاة تحت وطأة الجوع

روزانا غزة: حلم النجاة تحت وطأة الجوع

في أحد المنازل المتواضعة التي تفتقر إلى النوافذ الزجاجية والتي أغلقت درفاته بقطع قماش ممزقة، جلست أم وليد، وهي أربعينية من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، أمام طاولة خشبية متآكلة، تستمع إلى الأخبار الصباحية الواردة عبر المذياع.  

أعقب موجز الأخبار أغنية فيروز "ع الروزنا، ع الروزنا كل الهنا فيها". تنصت أم وليد إلى كلمات الأغنية التي تعود إلى أواخر الخمسينات، وبين يديها كيس صغير من الطحين بالكاد يسد رمق عائلتها المكونة من ثمانية أفراد. تنظر إليه بحسرة وكأنها تتوسل أن يتحول إلى مائدة عامرة تنقذ أطفالها من الجوع، وتهمس لنفسها: "أين هي روزانا؟ أين السفينة المحمّلة بالخيرات التي تنتشلنا من الموت البطيء؟"

تحكي أم وليد بأسى: "جدتي كانت تتحدث عن الروزانا، تلك السفينة التي أبحرت من إيطاليا محملة بالقمح لإنقاذ بلاد الشام من القحط. كنت أظن أن لكل جوع روزانته الخاصة، لكن يبدو أن غزة ليست على خارطة الإنقاذ."

والروزانا هو اسم سفينة كان ينتظرها بشغف الناس الذين يعانون من المجاعة في فلسطين ولبنان وسوريا بعد فشل حصاد القمح قبل 100 عام، وكان المقصود من هذه السفينة أن تقدم الخلاص، لكنها لم تجلب سوى المزيد من خيبة الأمل والخسارة المريرة، فلم يكن على حمولتها أي شيء تقريباً للأكل، لهذا قالت فيروز في أغنيتها "شو عملت الروزانا الله يجازيها".

في غزة، أضحى اسم "روزانا" مرادفًا لأمل مفقود أيضاً. فهنا، الجوع ليس حكاية قديمة تُروى، بل واقع يومي يتكرر مع كل شروق شمس، حيث ينام الآلاف بلا عشاء وربما على وجبة غذاء واحدة خلال اليوم، بينما يمضي غالبية الأطفال يومهم دون قطرة حليب.

في سوق الصحابة الشعبي وسط مدينة غزة، تتدافع النساء بأيديهن النحيلة لشراء بقايا الخضار بأسعار خيالية. تروي سميرة عادل تجربتها في السوق: "بحثت لساعات بين البسطات عن بائع خضار بأسعار معقولة، حتى أشتري كيلو من البطاطس، لكن غلاءها على نحو غير مسبوق (20دولاراً للكيلوجرام)، جعلني أعود إلى المنزل صفر اليدين، وعينا أطفالي الصغار تلاحقاني بحزن قاتل".

الجوع هنا لا يقتصر على المعدة، بل يمتد ليصبح سجنًا نفسيًا يفقد فيه الأهل قدرتهم على النظر في أعين أطفالهم. تقول سميرة، وهي ربة منزل: "لم يعد زوجي أو أطفالي يسألوني ماذا سنأكل اليوم، لأنهم اعتادوا على أصناف محددة من الطعام اليومي، كالعدس والفول والزعتر والدقة (قمح مطحون ممزوج بالشطة)".  

وتكشف الأرقام عن عمّق الألم، حيث يكشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2024 عن حقائق صادمة: بأن 80% من سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي، فيما أن أكثر من 90% يعتمدون على المساعدات الإنسانية بشكل أساسي.

وطبقا للتقرير فإن معدلات سوء التغذية بين الأطفال وصلت إلى مستويات قياسية، حيث يعاني 45% منهم من فقر الدم، و30% يعانون من التقزم بسبب نقص البروتين.

بينما يحلم الأطفال بكوب من الحليب الدافئ، يصبح الحصول على قطعة خبز إنجازًا يوميًا. تشرح نجاح عبد الغني، وهي أم لطفلتين تقطن في مخيمات النزوح غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، معاناتها قائلةً: "في كل مرة أذهب إلى مركز توزيع المساعدات، أعود مكسورة القلب. المساعدات قليلة وغير كافية، وغالبًا ما يتم توزيعها بشكل غير عادل. أشعر أنني أعيش قصة انتظار لا نهاية لها، وكأننا ننتظر فجراً لن تأتي أبدًا."

تضيف عبد الغني التي لم تكمل تعليمها الجامعي بسبب قلة ذات اليد واضطرارها للزواج من أبن عمها، "لقد أصبحنا نعاني الأمرين نتيجة شح الدقيق والغلاء الفادح الذي يعانيه السوق، والكارثة الأكبر أن زوجي متعطل عن العمل، ولم يعد بمقدورنا شراء الدقيق فالكيلو الواحد يتجاوز سعره (30 شيكل)، ونحن كأسرة بحاجة يومية على الأقل إلى اثني كيلوجرام (..) من أين سنأتي بكل هذا المال؟".

ماذا لو كانت روزانا هنا؟

يتساءل الحاج سالم، الذي تجاوز عقده السادس: "لو أن هناك روزانا لغزة، ماذا كانت ستحمل؟ هل ستجلب القمح لنا لنصنع الخبز؟ أم المياه لنروي عطشنا؟ أم أنها ستعيد لنا كرامتنا المفقودة في طوابير الانتظار؟"

يشير الرجل الذي اشتغل رأسه شيباً وازداد حاجبيه انعقاداً تحت وقدة شمس حطت أشعتها على سطح خيمته وحولتها إلى ما يشبه الدفيئة الزراعية، إلى أن الكارثة في نظره أن العالم لم يعد يلتفت لاحتياجات سكان قطاع غزة أو لمأساتهم، يتساءل: "هل اعتاد العالم مشهد الموت؟، لماذا لم تسير البواخر والقوافل لسد جوعنا أو على الأقل لوقف وإخماد بوق الحرب". 

وبحسب المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكل فرد الحق في الغذاء الكافي لحياة كريمة، لكن في غزة، هذه الحقوق لا تزال حبراً على ورق. الحصار المستمر منذ 17 عامًا يمنع دخول المواد الأساسية، ويضع السكان أمام خيارين: الجوع أو الموت.

يعلق الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، على الأوضاع القائمة بالقول: "غزة تعيش كارثة إنسانية بسبب عجز العالم عن إجبار الاحتلال على رفع الحصار والسماح بتدفق الطعام والغذاء إلى السكان، فالجوع هنا ليس قضاء وقدرًا، بل نتيجة لسياسات ممنهجة تهدف إلى خنق السكان."

وكما لو أنه يوجه النداء الأخير إلى العالم، يقول سليم عطية، ذلك الرجل الذي لم يحالفه الحظ في سد نوافذ خيمته المتهالكة والتي أبقت أجساد أطفاله الأربعة مشرعة على البرد وصوت القصف اليومي، "كل ما أطلبه هو العودة إلى مسكني في شمال غزة، تحت ظلال خيمة تسترنا، ورداء نظيف ووجبة دافئة لأطفالي(..) حلمي بسيط جدًا، لكن تحقيقه يبدو مستحيلًا، أنا أقول للعالم أرجوكم أوقفوا هذه الحرب ومدوا يد العون قبل أن تبتلعنا المجاعة!"

 

(*) اسماء مستعارة