لهذا السبب اختفت قصص ما قبل النوم

أمهات تعجز عن روايتها لأطفالها

لهذا السبب اختفت قصص ما قبل النوم

 

لم تكن تتواني السيدة نور عبد الكريم (28 عاماً) عن صناعة طقسٍ مسائي يومي لصغيريها اللذان لما يبلغ أكبرهما خمس سنوات، حيث ترقد متوسطةً سريريهما عندما يحين موعد النوم، وتباشر برواية قصص الأطفال على سمعيهما، وبعد أن تنتهي تضع على وجنتيهما قبلاتها، ثم تغادر الحجرة تاركة خلفها هدوء لا يقطعه خوف ولا قصف.

اليوم تبدل الحال، وأصبحت تعيش السيدة عبد الكريم وطفليها رفقة زوجها وحماتها في خيمة واحدة غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، مخلفة وراءها في شمال غزة شقة سكنية حديثة البناء، جاءت عليها الحرب وجعلتها كتلة ركام. 

تجلس هذه السيدة الآن وسط الخيمة المصنوعة من القماش والنايلون، لا طاقة لها على الحديث ولا قدرة على فعل شيء، حيث تصاب بالإعياء نتيجة القيام بأدنى الأعباء، وتعزو ذلك لدوافع نفسية وصحية في آن واحد، لاسيما أنها أصيبت بخيمة أمل كبيرة بعدما بلغها نبأ تدمير شقتها السكنية، وهي واحدة من أصل 150 ألف وحدة سكنية دمرت إلى الآن، طبقاً للبيانات المحلية.

تهدهد نور طفلتها التي أصابها طفح جلدي، في محاولة منها لحثها على النوم، رغم أن حرارة الطقس التي تزيد عن معدلها السنوية بخمس درجات مئوية، لم تعط أحداً من النازحين الذين يزيد عددهم عن مليون ونصف مواطن، فرصةً للحصول على قسط كاف من النوم أو الراحة، مما سبب لغالبيتهم ألآماً نفسية نظراً لتردي الواقع المعيشي وانعدام سبل التهوية داخل الخيام، فضلا عن التدهور الاقتصادي المرافق للحالة الأمنية الخطرة التي تشهدها مناطق النزوح والتي تصنف على أنها مناطق أمنة، ومع ذلك تكررت حوادث الاستهداف، وفق إفادة مراكز حقوقية.

وقالت السيدة: "لقد أصبحت الحياة القديمة خلف ظهورنا بما فيها من تفاصيل وطقوس جميلة وحياة هانئة مطمئنة، كنا نمارس فيها حقنا في الحياة ونعلم أطفالنا السلوكيات الحميدة ونحدثهم عن فضائل الأمانة وأهمية التحدي والشجاعة وغيرها من أفكار وعبر، جاءت بين دفتي قصص ما قبل النوم، كل ذلك الآن تبخر لأن حياة الخيام لا تشبه حياة الآدميين بشيء".

يتعمق الأذى في صدر هذه السيدة عبد الكريم، نظراً لعدم قدرتها على حماية صغيريها اللذان ما يلبثان أن يفزعا بين حين وآخر نتيجة احداث القصف المتواصل على مناطق مختلفة من قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولا تملك القدرة على توفير مأوى آمن لهم ولأسرتها عموما.  

وتعيش المئات من النساء النازحات معاناة مماثلة، حيث يتعزز لديهن قناعة بأنهن لا يملكن أمنهن ولا أمن صغارهن، الأمر الذي يجعلهن يعانين من فرط في القلق والتفكير خشية على حياة الأطفال، وهو أمر أعجزهن عن محاكاة الكثير من طقوس حياتهن السابقة، بما في ذلك رواية قصص ما قبل النوم التي كانت تسردها الأمهات كمساحة لتشكيل وعي أطفالهن، لكن لا يمكن لهذه التجربة أن تتكرر في ظل ظروف النزوح والإيواء والتي تنعدم فيها الاستقلالية، كما قالت الكثير منهن.

تقول أميرة خلف (30 عاماً) وهي أم لثلاثة أطفال أكبرهم في التاسعة من العمر، إن رواية قصص ما قبل النوم كانت جزء أصيل من حياة أطفالهن قبل اندلاع الحرب، فيما الحال الآن قد تغير، حيث تعد رواية قصص الأطفال وسط بيئة صفية (مكان نزوحها وأسرتها)، ترف لا قيمة له.

وأضافت السيدة خلف التي دمر مسكنها في شمال غزة وتعيش الآن في إحدى مدارس الإيواء غرب مدينة غزة "الحرب الدائرة قد غيرت وعي الأطفال تجاه الكثير من القضايا بما فيها فكرة أن البيت هو البيئة الآمنة، نظراً لما حل بالآلاف من البيوت من دمار وسقطت فوق رؤوس صغارها، لذلك لم تعد رواية الفضائل والقيم تنسجم مع ما يجر على أرض الواقع في نظر الكثير من الأطفال".

وأزهقت الحرب على غزة أرواح ما يزيد عن 40 ألف شخص، 71% منهم من النساء والأطفال، وفقاً لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.   

بموازاة ذلك، لا تزال تعول جمانة الصباح مديرة مركز سند لإرشاد الأسري، على قصة ما قبل النوم لمساعدة الأطفال في مناطق النزاع على احتمال الواقع وتقبل الفقد، مشيرة إلى أهمية إعطاء الأطفال مساحة للتعبير والتفريغ أيضاً من خلال حثهم على كتابة رسائل لأصدقائهم وكذلك لحيواناتهم الأليفة التي فقدوها، "وهذا بحد ذاته يعطيهم فرصة لتقبل الفقد في الحياة".

وقدمت الصباح مجموعة من الأفكار لأولياء الأمور من أجل مساعدة أطفالهم على تجاوز محنة الحرب، والتي منها اشغالهم في الكتابة والرسم والتعبير عن مشاعرهم المكبوتة، وحثهم على الاستغناء عن الشاشات سواء الهواتف أو الحواسيب أو التلفاز.

وقالت: "إن لعبة الكراسي داخل الخيمة أو المساحات الآمنة من الممكن أن تعلم الأطفال الإصغاء والتركيز وتقبل الخسارة، كما أن الفنون اليدوية كعجينة الصلصال والمعجون وغيرها، تعطي الأطفال والمراهقين فرصة لتفريغ طاقتهم وتوسيع دائرة الخيال والابتكار لديهم، فضلاً عن أنها تقوي الاعصاب".

وشددت على أهمية أن تشارك الأمهات أطفالهن في ورش التفريغ التي تتبناها المؤسسات المختصة للأطفال ضحايا النزاع، على اعتبار أن دمج الأهل في فعاليات الطفل يعطي الأخير شعور بالأهمية والحب غير المشروط. أما بالنسبة للمراهقين فأكدت على أهمية أن يكون بينهم وبين أسرهم اتفاقية شراكة بحرية محدودة، تضمن تحفيزهم على المشاركة الفاعلة داخل الأسرة وأنشطتها اليومية، وبالتالي فإن هذا يساعد في خلق مساحة أوسع للوقت الإيجابي.

في السياق ذاته، شددت الصباح على أهمية التفريق بين الطفولة المبكرة والمراهقة، لأن الأولى تعني أن هؤلاء الأطفال لديهم اهتمامات مختلفة وهذا يتطلب من الأهل الاقتراب منهم وبناء برنامج يومي مخطط له يساعدهم على التخفيف من الصراعات، ويبدد الملل لديهم.

وعلى الرغم من كل ما تقدم من أفكار، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق بالدرجة المثلى ما لم تتوقف الحرب، ويتمكن الأطفال والأمهات على حدٍ سواء من التمتع بحقوهم الكاملة في الحياة والحماية والبيئة الأمنة والعيش الكريم.