في الواقع، لم يرتبط قص شعر الرأس بالنسبة للنساء في قطاع غزة في الوقت الراهن، بصرعة موضة تسعى الكثير منهن إلى محاكاتها، ولكن "للضرورة أحكام"، كما تقول إحداهن في التعبير عن دوافع الأمر.
والضرورة هنا التي تتحدث عنها الكثير من النساء، هي الظروف الحياتية الصعبة التي تعيشها غالبيتهن في ظل الحرب المستمرة منذ أكثر من تسعة أشهر، والتي أجبرتهن على الإقامة داخل خيام النزوح ومراكز الإيواء بعد أن فقدن بيوتهن تحت وطأة القصف، والحرمان حتى من مقومات النظافة الشخصية.
هنا في جنوب القطاع على وجه الخصوص، تعيش النساء داخل خيام النزوح معاناة خاصة نتيجة حرمانهن من كافة الاحتياجات المرتبطة بالعناية بالجسم بما في ذلك صابون الاستحمام والشعر، فضلاً عن محدودية وصول المياه الصالحة للاستخدام، وعدم توفر أي من مواد التنظيف لغسل الملابس.
هذا الواقع، أجبر السيدة سهى سمير (*) التخلي عن شعرها الطويل التي ما فتئـت تباهي به، واضطرت إلى قصه على نحو يساعدها على التخلص من القمل الذي أصاب رأسها، بمعنى أنه لم يعد بمقدورها الآن أن تصنع ضفيرةً كما اعتادت أن تفعل.
تشير السيدة سمير (24 عاماً)، إلى أنها أصيبت بالقمل بفعل المخالطة الناتجة عن حالة التكدس داخل الخيام المقامة إلى الغرب من محافظة خانيونس، بالتزامن مع الطقس الحار، وانعدام أشكال التهوية كافة داخل الخيام المصنوعة من النايلون والقماش البالِ.
عندما اكتشفت هذه السيدة إصابة شعرها بالقمل، حاولت البحث عبر الانترنت عن طرق آمنة وغير مكلفة لتساعدها على التخلص منه، غير أنها قالت والدمع محتبس في عينيها "للضرورة أحكام اضطرت إلى قصه رغماً عن أنفي، لأني أدرك حقيقة أن القضاء على القمل يستوجب الإقامة في بيئة صحية وكريمة وهذا من المستحيل أن يتحقق دون توقف الحرب والعودة إلى بيوتنا في شمال القطاع".
لم يكن من السهل على النساء اللواتي التقينا عدد منهن أن يخبرن عن قصة القمل الذي انتشر في شعرهن وقادهن إلى قصه، خصوصاً مع عجزهن عن شراء "الشامبو" الذي شح وتضاعف سعره على نحو غير مسبوق، فالقمل هي مشكلة صحية حساسة ومحرجة في آن واحد لما يمكن أن تعرضهن إلى التنمر مستقبلاً، لاسيما الفتيات القاصرات.
ومع ذلك، فإن ثمة من ترى أنه يجب أن يصل صوت النساء خارج حدود الخيام ويعرف العالم معاناتهن ويساعدهن على تجاوزها.
تلك عُلا عبد الله (*) سيدةً في العقد الثالث من العمر، ترفع صوتها وتأخذ على عاتقها الحديث بلا حرج، قائلةً: "ليس بإمكاننا أن نجمل هذا الواقع البشع الذي نعيش، هذه هي الحقيقة نحن نعاني من تفشي الأمراض والأوبئة وكذلك من القمل أيضاً، ووجدت نفسي فجأة أجمع شعري- الذي ما فتئت أعتني به قبل الحرب بما يستوجب استخدامه من مستحضرات ومرطبات - واقصه دون وعي وعيناي لا تكف عن البكاء".
تصحح السيدة حجابها وتمسح ذرات العرق عن جبينها، وتضيف "زوجي فوجئ كثيراً مما فعلت لإدراكه حقيقة حبي لشعري واهتمامي الدائم به إلى الحد الذي كان يجعلني استصعب حتى قص أطرافه المقصفة، لكنني فعلتها وقصصته تحت وطأة الإصابة بالقمل".
وأوضحت السيدة التي تعطلت عن العمل في وظيفتها الحكومية ولم تعد تتلق راتباً بشكل دوري، أنها صُعقت حين اكتشفت وجود قمل في شعرها، "من الواضح أنه انتقل إليّ عبر طفلتي ذات الأربع سنوات والتي تختلط بصغار المخيم، ونستخدم مشطاً واحداً لكلانا (..) المشكلة استفحلت بين الكثير من النازحين، إذ تشتكي جاراتي من الأمر ذاته".
كثيرات من النساء قصصن شعرهن على طريقة "الكاريه"، وهي القَصة التي تتلى فيها خيوط الشعر مع حدود الرقبة. وفعلن ذلك إما بالاستعانة بأحد أفراد الأسرة أو بإحدى الجارات ممن يملكن الخبرة، لأنه لم يعد هناك وجود فعلي لصالونات التجميل التي اندثرت بفعل هدم آلاف المباني والمحال التجارية في مختلف مناطق القطاع الذي لا تتجاوز مساحته 365 كلم2.
غير أن الأمر يصبح أكثر كارثية بالنسبة للإناث دون سن الخامسة عشر واللواتي لم يتردين الحجاب بعد، إذ يتعرضن للتنمر بمجرد أن يخرجن إلى العلن بقصات شعر تبدو ذكورية إلى حد ما، مما يتسبب لهن بمعاناة نفسية مضاعفة قد يطول أمد التشاف منها.
وفي الغالب كانت تفضل الكثير من النساء اللواتي يشكلن ما نسبته 49% من عدد سكان قطاع غزة، إبقاء شعورهن منسدلة على ظهورهن يباهين بها في المناسبات بين صديقاتهن وأقربائهن من الدرجة الأولى، فهو في نهاية المطاف مجتمع محافظ وتفرض القواعد الدينية على النساء ارتداء الحجاب في سن مبكر.
وحُرمت النساء خلال الحرب الإسرائيلية الدائرة منذ أكثر من 310 يوماً، بدون وجود أفق لوقف إطلاق النار، من التباهي بشعورهن أو حتى الحفاظ عليه، لأسباب متعددة كما تقول أخصائية التجميل والعناية بالجسم سندس محمد.
ويأتي في مقدمة تلك الأسباب طبقاً للأخصائية محمد، اضطرار النساء لارتداء الحجاب طيلة الوقت حتى خلال ساعات النوم، فضلاً عن حرمانهن من أدنى مقومات الحياة مما انعكس سلبًا على قدرتهن على العناية بصحتهن، إلى جانب التلف الذي أصاب شعرهن نتيجة استخدام المياه الملوثة وانتشار القمل في رؤوس الكثير منهن، لاسيما الأطفال بفعل التكدس الحاصل في خيام النزوح، والتي أصبحت بيئة خصبة لانتشار الأوبئة والأمراض.
وأوضحت أن الغالبية من النساء في غزة تعاني الأمرين، في ظل عدم توفر أي مساحة تضمن خصوصيتهن وتمكنهن من التخلي عن الحجاب حتى في ساعات الليل إما تخوفاً من وقوع قصف مفاجئ، أو حفاظاً على الحشمة، فضلاً عن التعرق الناتج عن الطقس الحار، وكذلك عدم وجود صابون ولا مياه صحية، فضلاً عن ضيق المساحات التي تجبر النازحين على الاختلاط القسري.
وأشارت إلى أن كل ذلك عوامل ساعدت في انتشار القمل، مثلما أدت أيضاً إلى انتشار مرض الكبد، والحساسية الجلدية، والأمراض المعوية، وغيرها من الأمراض بين النازحين، وبخاصة النساء والأطفال.
وبينت الاخصائية أن هذا كله يترافق مع تراجع خدمات القطاع الصحي، وشح الأدوية، بفعل إغلاق الاحتلال الإسرائيلي المعابر مع القطاع واستهداف غالبية المشافي والمرافق الصحية وإخراجها عن الخدمة.
هنا في جنوب القطاع، التقى منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، مهند هادي، العديد من النازحين هناك لاسيما النساء خلال زيارة هي الثالثة له خلال الحرب على غزة.
رأى هادي بنفسه تداعيات الظروف المروعة في مواقع النازحين، وقال إن النساء أخبرته حين التقى مجموعة منهن في إحدى دور الضيافة التابعة للأمم المتحدة، أن العديد منهن قصت شعرهن بسبب القمل، وصعوبة الحصول على منتجات النظافة الضرورية مثل الشامبو، وانعدام الخصوصية في المواقع المخصصة للنازحين.
ونقل عن هادي قوله، إن النساء أعربت عن يأسهن إزاء ظروف الاكتظاظ الشديد في مواقع النزوح وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى توترات داخل المجتمعات. وقالت إحدى النساء إنها لم "يكن بوسعها خلع حجابها لعدة أيام، أو تمشيط شعرها أو تغيير ملابسها دون أن يراقبها الآخرون، وذلك بسبب العيش مع العديد من العائلات المختلفة في نفس الغرفة".
وأخبرته أخريات أن الاكتظاظ واليأس وانهيار النظام العام والسلامة كل ذلك يؤدي إلى زيادة العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
ومن الواضح، حسب إفادة عدد من النساء اللواتي اضطررن لقص شعرهن، أن الأمر أدى إلى تردي حالتهن النفسية، وبخاصة أن الحرب تجبرهن يوماً بعد أخر بدفع أثمان باهظة من أرواحهن وصحتهن الجسدية والنفسية.