يجلس الطفل الفلسطيني ساجي أحمد (12 عاماً) أمام موقد النار، مساعداً أمه في طهي حساء العدس. تارة يضع القليل من الأعواد التي جمعها من المحيط المدمر غرب مدينة غزة، وتارة أخرى يشق صفحة من كتاب اللغة العربية خاصته.
ينظر الطفل أحمد إلى عنوان الصفحة 18 من الكتاب وقد حملت في أعلاها عنواناً: (شارع في غزة)، يتبسم متهكماً قائلاً "كل الشوارع دمرت، هو ضل شوارع؟". ثم يدس الورقة داخل الموقد لزيادة اشتعال النار.
يتخلص أحمد بقصدٍ من كتبه المدرسية بدعوى اشعال الموقد، ويقول إنه لم يعد يعرف شيئاً عن منهجه الدراسي الذي حرم من استكماله منذ السابع من تشرين الأول الماضي. واختزلت الحرب على قطاع غزة، برنامجه اليومي في جمع الحطب وتعبئة جالونات المياه لأسرته المكونة من سبعة أفراد ويقيمون جميعهم داخل غرفة صفية في مدرسة صلاح الدين التابعة للأونروا غرب غزة.
الغرفة التي كان يصفق فيها الطلبة لزميلهم "ساجي" عندما يجيب على أسئلة معلميه الصعبة، أصبحت مساحة تتوزع فيها الفرشات والأغطية وبضعة ألبسة تزاحم اللوحات التعليمية المعلقة على الجدران. وبدلاً من أن يستمع فيها لتوجيهات المعلمين والمعلمات، أصبح ينصت بإذعان لتوجيهات أمه التي ما فتئت تحذره من الذهاب يمنةً ويسرةً خشية من عمليات قصف.
عند سؤاله: هل تفضل العودة إلى الدراسة؟ أجاب وهو يزم شفتيه "نحن نحلم بمغادرة المدرسة". ويقصد مكان الإقامة الحالي والعودة إلى مسكنه المدمر في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، غير أنه لم يعد صالح للسكن.
وأصبح الطفل بلا تعليم منذ عشرة أشهر، ويقيم مرغماً داخل المدرسة، حاله كعال الآلاف من الطلبة الذين سكنوا المدارس كمراكز إيواء منذ بداية الحرب التي تستمر منذ أكثر من 310 يوم، وراح ضحيتها أكثر من 40 ألفاً من السكان، 33% منهم من الأطفال.
ليس ساجي وحده، بل مثله أيضًا (620 ألفًا) طالب وطالبة (وزارة التربية والتعليم، 2024)، تعطلّوا قسريًا عن الدراسة وتأخروا عامًا دراسيًا كاملًا فيما لم يتضح بعد مصير العام القادم إذ تُنذر ظروف مباحثات صفقة التبادل القائمة بعدم وجود انفراجة قريبة تفضي إلى وقف مؤقت أو دائم لإطلاق النار.
في مركز إيواء أخر ابدت الطفلة، أية طالب التي لم تتجاوز ربيعها الثالث عشر، حرصاً على مراجعة دروسها المدرسية بين حين وآخر لكنها تعاني فقدان كتبها المدرسية بعد تدمير البناية التي كانت تقطنها.
تمارس هذه الطفلة دور المعلمة في محاكة لعملية التعليم هي وأطفال آخرين داخل الغرفة الصفية، تخرج "أية" التي نالت النحافة من بنيتها، طبشورة من جيبها وكتبت على الصبورة "نحبك يا غزة". ثم طالبت من رفاقها أن ينادوا بهذا الشعار صوتاً واحداً.
ومع ذلك، تأبى هذه الطفلة أن تواصل إقامتها هنا داخل مركز الإيواء، حيث تعبر عن أمنياتها بأن تنتهي الحرب وتعود لتمارس حقها في اللعب رفقة صديقاتها وزميلاتها، أما بالنسبة لاستئناف التعليم فتبسمت قائلةً: "أنا أفضل العودة إلى التعليم حتى لو كان على شاطئ البحر مثلاً أما هنا داخل هذه المدرسة التي شهدت على مأساتنا فأنا لا أرغب بذلك مطلقاً".
لانا محمد (11 عاماً) قالت هي الأخرى، كنت أحب المدرسة حينما كنت أذهب إليها يومياً خلال ساعات الدوام المدرسي، لكن بعد أن أصبحت بيتاً ومقر إقامة غير آمنةٍ فأنا لا أحبها مطلقاً.
دانا التي لا تزال تحفظ درساً تعليماً عنوانه "التلوث الصوتي"، ألقته على مسامع الطلبة في الإذاعة المدرسية ذات يومٍ، قالت: "أذكر كيف أني اعتليت المنصة المدرسية وأمسكت بالميكرفون وانطلقت يومها قائلةً التلوث الصوتي له أثار سلبية وأضرار متعددة على الصحة كالإصابة بفقدان السمع وارتفاع ضغط الدم والتأثير على النوم والتسبب بالقلق والتوتر".
وأضافت الطفلة: "ما فائدة كل ما قلته، بعدما تساقطت القذائف فوق رؤوسنا مثل زخات المطر، وأصبحنا نعاني خوفاً شديداً جراء هذه الأصوات، والتي تجعلنا في يقظة دائمة حتى خلال ساعات الليل (..) أفضل دائماً الالتصاق بأمي عندما يحين الليل وأشعر أن المدرسة لم تعد أمنة مطلقاً لأنهم يستهدفون المدرس أيضاً".
ويأتي هذا الاستهداف، في ظلّ تحذيرات خبراء أممين من "إبادةٍ تعليمية"، تستهدف تدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكلٍ شامل ومتعمد وممنهج، وهو ما يتسبب بتأثيرات مُدمرة وطويلة الأمد على حقوق السكان الأساسية في التعلم.
يفرض هذا الواقع تساؤلًا ماهيته: "هل يحفظ القانون الدولي للأطفال حقهم في التعلّم وحمايتهم من إبادة تعليمية ممكنة جرّاء الحروب والنزاعات؟
وفي الإجابة عنه، نجد أنَّ المادة (13) من العهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كفلّت الحق في التعليم، جاء فيها، "تقرّ الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم. وهي متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها، وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية".
وقد تم تبني القرار الخاص بالحق في التعليم، خلال الدورة العادية الثالثة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في المدة ما بين 19 يونيو و14 يوليو للعام 2023.
وقال المحامي الفلسطيني والناشط الحقوقي يوسف الحداد، إنّ الاحتلال الإسرائيلي باستهدافه للمؤسسات التعليمية دون مراعاة المبادئ الأساسية الخاصة بالتمييز والتناسب والضرورة العسكرية قد قام بمصادرة حق طلبة قطاع غزة في التعليم.
كما شدّد على أنّ إسرائيل انتهكت حق الطلبة في الحصول على التعليم بما يُشكِّل انتهاكًا صارخًا لأحكام القانون الدولي الذي كفل الحق في التعليم في جميع الأوقات بما في ذلك أثناء النزاع المسلح أو تحت الاحتلال العسكري أو في أوضاع الطوارئ.
ومن الناحية السيكولوجية، فإن ارتباط التعليم بالتهجير من منظور عملي عبر إجبار السكان على النزوح والإقامة داخل المدارس، يشكل عبئاً نفسياً على الطلبة عموماً وفق ما قاله المختص النفسي محمد مهنا.
وأشار مهنا، إلى أن إقامة الأطفال داخل المدارس خلال رحلة النزوح والتهجير وتحت وطأة القصف والعمليات العسكرية واستهدافها أيضاً أثناء إقامة النازحين بداخلها، يجعل من المدرسة بيئة غير آمنة في نظر الطلبة حتى بعد وقف إطلاق النار، ويعقد من عملية إعادة الاندماج في العملية التعليمية مجددا.
وقال المختص النفسي: "غالبية الطلبة عاشوا تجارب مأسوية قاسية خلال الحرب، وصدمات متكررة حتى خلال إقامتهم في مراكز الإيواء (المدارس)، وبالتالي فإنه استئناف التعليم داخل المدارس حتماً سينكأ الندوب النفسية، ويعزز أعراض ما بعد الصدمة، اعتمادا على الخبرات السابقة، أي استحضار مشاهد المأساة التي عايشوها سابقاً خلال الحرب".
إزاء ذلك، طالب مهنا بضرورة أن تنصب الجهود على التدخل النفسي العاجل للأطفال، قبل استئناف العملية التعليمية، وذلك لمساعدة الطلبة على الاندماج في التعليم مجدداً بشكل آمن، يمكنهم من الحفاظ على مستقبلهم العلمي.