ليس من المؤكد إن كان الصيادون يكتسبون شيئًا من سلوك فرائسهم مع مرور الوقت، لكن ثمة من يجزم أنهم مع الممارسة يتشابهون في الصفات. وهاك الريس أبو رجب الهسي وهو صياد فلسطيني من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يضربُ في نفسه المثل، فيقول: "أنا كالسمكة إن خرجت من الماء أختنق وربما أموت".
يحملُ قول الرجل الكهل ذو العدسات المقعرة، دلالةً واضحةً على أن الحرب المستمرة في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، لم تستطع أن تحرمه من ولوج البحر واسناد ظهره إلى بقايا شقاء العمر الذي صار حطاماً "اللنش" (وهو مركب متوسط الحجم يعمل بالمحرك).
فقد الرجل الذي تجاوز الثمانين من العمر، ثلاثة مراكب مشابهة تعود ملكيتها له ولعائلته بفعل الحرب التي دمرت العشرات من مراكب الصيد، وبخاصة تلك التي حطت رحالها دخال حوض ميناء غزة، ومع ذلك لم يفقد الأمل في مواصلة مشواره في مهنة الصيد، التي امتهنها مذ كان فتى صغير.
حق في العيش
الصيدُ مهنةُ صبرٍ في طبيعته في عُرف الصياد الهسي، الذي يجدُ في نفسهِ القوة على احتمال اختبارات الحياة، فيقول: "إما أن نصبر على ما نحن عليه من حربٍ وبؤسٍ وفقرٍ ونواجه كل ذلك بشجاعة، أو أن نموت، لذا إن كان لابد من الموت فلنموت ونحن نمارس حقنا في العيش".
قبل أشهر قليلة لم يكن بمقدور هذا الصياد ولا غيره أن تطأ أقدامهم رمال الشاطئ المحاط بسياج من الرصاص الذي يطلقه الجنود الإسرائيليون عبر الزوارق البحرية على بعد مئات الأمتار، تجاه أي جسم متحرك داخل أو خارج الماء.
غير أن جوع أطفال الصيادين الناتج عن حرمان الاحتلال الاسرائيلي سكان شمال وادي غزة من الغذاء، قد دفع بعدد من الصيادين إلى مواجهة الموت مباشرة، عبر الولوج إلى الماء ومواصلة حقهم في الغطس واصطياد السمك، لأجل إخماد قرقرة أمعاء أسرهم.
ولا يوجد رقم دقيق عن أعداد الصيادين الذين ارتقوا خلال هذه الحرب أو قتلوا وهم يمارسون عملهم. ولكن كان يعمل في مهنة الصياد قرابة 3 آلاف صياد موزعون على محافظات قطاع غزة الخمس، وتعطل غالبيتهم عن العمل نتيجة الحرب التي فرضت طوقاً بحرياً خانقاً، فضلاً عن تعرضهم للخسائر المادية بفعل تدمير غالبية المراكب واحراق أخرى، وسحق أدوات ومعدات الصيد.
وفي سياق ما يمكن تسميته صراع البقاء، لجأ الصياد الهسي وأخرين رغم ضراوة القصف المتواصل، إلى صناعة مراكب جديدة، وأحياناً الاستفادة مما تبقى من هياكل الهالكة وترميمها.
في الوقت الراهن، تقدر تكلفة إنشاء مركب صغير الحجم (حسكة مجداف)، بنحو 4 آلاف دولار، وهو المركب الوحيد الذي بإمكان الصيادين أن يبحروا به داخل حوض ميناء غزة أو ما يعرف بـ"مرفأ الصيادين" من دون خوف.
ومع ذلك، فاحتمالات الخطر لا يمكن نفيها البتة، كما يقول الصياد رشاد عيسى، الذي شبه العمل في هذه الظروف بأنها "مغامرة"، نظراً لاحتمال التعرض للإصابة أو القتل في أي لحظة نتيجة عمليات إطلاق النار التي يطلقها خفر السواحل الإسرائيلي صوب الشاطئ من وقت لآخر.
ولتجاوز العراقيل الأخرى التي لها علاقة بنقص المعدات، فيقول عيسى نحاول التحايل على الأمر من خلال استصلاح الشباك ورقعها ومن ثم تحجيم مساحتها وتقليصها بما لا يتجاوز قطر الواحدة منها ثمانية أمتار تقريباً. فهي تشبه "شبكة الشنشولة" (شبكة يستخدمها الصيادون على بعد خطوات من الشاطئ دون حاجة للإبحار عبر مراكب).
وفرضت الحرب واقعاً جديداً على آليات الصيد، حيث يلج الصيادون المرفأ الذي دمر جزءاً كبيراً منه، مع الساعة الرابعة فجراً يحملون امتعتهم من طعام وماء، يجهزون شباكهم، من ثم يعتلي في الغالب كل ثلاثة صيادين (الحسكة)، يقوم أوسطهم بإلقاء الشباك في الماءعلى بعد نحو ثلاثين متراً من الشاطئ، فيما الآخران يجدفان بالمجاديف الخشبية.
يدور المركب بضع مرات حول الشباك، ثم يقوم الصيادون بجمعها والعودة بها إلى الشاطئ. في عملية تستغرق نحو ثلث ساعة تقريباً، هناك يقومون باستخراج حمولتها من السمك، وهكذا دواليك، فيما يتولى شخص رابع يحتمي من وقدة الشمس تحت مظلة على الشاطئ، مهمة البيع للزبائن وهم محدودون في واقع الأمر، لأن قلة هم الذين يملكون القدرة على شراء الأسماك من صنفي (البوري، والسروس) في غزة الآن، حيث تتسم الأسعار بأنها مرتفعة (متوسط سعر الكيلوجرام 30 دولاراً) بشكل يتناقض مع القدرة الشرائية للسكان الواقعين تحت سطوة ثلاثية الحرب والفقر والبطالة والتي تزيد نسبتها عن 90%.
فخاخ صيد
تألف الأسماك فخاخ الصيادين فتذهب إليها طوعاً وتقع في شركها، مثلما يعرف الصيادين أين تقيم وأين وجهتها إذا رحلت، وأي الطقوس أحب إليها. تلك الثقة هي التي تجعل الصياد أحمد سعد، يمزج مسحوق الدقيق مع الفانيلا ويصنع عجيناً يستخدمه في الصيد، بعيداً عن المراكب والشباك التقليدية.
يضع سعد في الثلاثين من عمره، العجين داخل صندوق من الشبك الحديدي ذو الثقوب الصغيرة، يتوسطه قُمع تدلف عبره الأسماك بحثاً وراء الطُعم المحلى، ثم تجد نفسها محاصرة داخل الصندوق. يتبسم وهو يقول: "احنا بنصيد على فيض الكريم، وربنا برزقنا برزق أولادنا (..) السمك لأنه بعيش في الملوحة ببحث عن الأشياء المحلاة أحياناً، علشان هيك بنصنع طُعم محلى أوقات بالفانيلا وأحيانا بالشوكولاتة حتى نتمكن من جلب السمك إليه".
يوزع الرجل وقته بين البحث عن المساعدات العينية -التي ترعاها جهات دولية وعشائرية في مدينة غزة بعد رفض الاحتلال الإسرائيلي استئناف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لعملها داخل القطاع- وبين البحر طمعاً في الحصول عن طعام يكفي حاجة أسرته المكونة من سبعة أفراد، إضافة إلى أسرة أخيه النازح والمكونة من أربعة أفراد أيضاً.
وعن استخدامه هذه الآلية في الصيد (الصندوق)، فشرح قائلاً: "في الحقيقة لم ابتكرها (..) لقد رأيت الناس يستخدمون هذه الأقفاص لأنها تلبي الحاجة دون الكثير ن المخاطرة، فأُعجبتُ بالفكرة وصنعت صندوقاً مثلهم، وبت استخدمه، حيث أقوم بإلقائه بشكل شبه يومي هنا في حوض الميناء الذي يزيد عمقه عن 16 متراً تقريباً وبعد نحو ساعتين أقوم بسحبه، ثم أجمع ما ظفرت به من سمك وأعود أدراجي إلى المسكن حيث ينتظرني أفواه الصغار".
يسود اعتقاد لدى الصياد سعد، بأن الأسماك في الغالب استقرت في قاع المرفأ بجوار مخلفات المراكب المتحطمة، لذلك فإن استخدام الاقفاص الحديدية في الصيد يسهل من عملية الوصول إليها، فضلاً عن أنها لا تتأثر بالمخالفات مثلما تتأثر الشباك التقليدية التي قد تتعرض للتمزيق أو التلف.
إلى جانب الصياد سعد، يجلس رجل خمسيني يدعى علي أبو ناصر، يحمل بين يديه صنارة يستخدمها في الصيد، ويقول إنها الوسيلة المثلى للخروج من صخب الحرب والظروف النفسية القاهرة التي يعيشها بفعل فقدان مسكنه.
يوضح أبو ناصر الذي يعتمر قبعةً من القش، أن صيد الصنارة كان يشكل بالنسبة له موهبةً يستثمرها من حين لآخر في التفريغ عن النفس لكونه ينحدر من مخيم الشاطئ للاجئين المعروف بمهارة الكثير من سكانه في السباحة والصيد فهم يجاورن البحر منذ خمسينات القرن الماضي إبان تشكيل المخيم في أعقاب نكبة العام 1948، لكنه يواظب الآن عليها بشكل يومي طمعاً في توفير مصدر رزق، بعد تعطله عن العمل في مهنة الحياكة.
الرجل ليس الوحيد الذي فقد مصدر رزقه، أبنيه أيضاً لم يعد لديهما أي مصدر للرزق فهما كانا يعملان في القطاع السياحي والذي تعطل تماماً بعد تضرر كافة المرافق السياحية منذ بدء الحرب التي تجاوزت يومها الـ 240.
وفقد نحو ربع مليون رب أسرة أعمالهم ووظائفهم بسبب الحرب، طبقاً للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة. ويجد العديد من السكان في البحر مساحةً للاسترزاق حتى وإن كانت محاطة بالخطر الشديد، سواء كان ذلك عبر عمليات الصيد التقليدية، أو بامتلاك أدوات صيد أخرى كالصناديق أو الصنارة. وفي جميع الأحوال هي صورة تعكس قدرة السكان على مواصلة حقهم في العمل والحياة، إن لم يكن بدافع الجوع فعلى الأقل بدافع التفريغ عن النفس.