عندما تطغى سمفونية الحرب، تصمت الموسيقى. تصبح المسارح مجرد حطام. والآلات الموسيقية شواهد. لكن الغريب أن يظل صوت الكورال مستمراً، متجاوزاً بذلك أصوات الرصاص وألسنة الدخان والخوف والقلق.
هذا باختصار ما يمكنك أن تراه جهاراً حينما تعاين عن قرب الجهد الذي تبذله الباحثة الفنية عطاف النجيلي، وهي تشجع الأطفال النازحين قبالة شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة، على الغناء، على الرغم من أنها ليست عازفة ولا مغنية، وكل ما في الأمر أنها صاحبة مبادرة ذاتية ترمي إلى تمرين الفئات الهشة بما فيها الأطفال في غزة، على تجاوز محن الحرب.
ما يثيرك أيضاً، كيف تصنعُ الفنانة النجيلي بدائل لكل ما تحتاجه كي تستمر في مبادرتها الخاصة (المبادر الذاتي)، فمثلاً تستعيض عن القُمّع الذي يمكن للأطفال الركض حوله بـ"قنينة ماء"، وتستعيض عن مكبر الصوت (الميكرفون) بحناجر الأطفال، وهي تحفزهم على الغناء بصوت عالٍ متجاوزين بذلك، البيئة المحيطة كلها، بما فيها حالة الحرب وانعدام الإمكانات.
في السابق كانت تعرف النجيلي نفسها بأنها فنانة تشكيلية وباحثة في الإنتاج الفني أيضاً، أما الآن فأجبرت على إضافة وصف جديد إلى بطاقة التعريف فتبدأ بالحديث (أنا النازحة....)، ذلك بعدما اضطرت للنزوح عن مسكنها الواقع في محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، منتقلة في تسع محطات خلال أربعة أشهر، إلى أن استقر بها الحال غرب دير البلح.
استطاعت هذه الشابة، أن توجد علاقة مع المجتمع المحلي نواتها الفن، واستعرضت تجربتها في هذا الأمر قائلةً: "أنا كفنانة تشكيلية كنت أحاول دائمًا أن أكون شديدة الملاحظة والتدقيق وفي بعض الأحيان كنت أجمع معلومات قبل أن أخوض تجربة رسم أي لوحة، وربما هذا ساعدني في بناء تصور عام حول المجتمع وفئاته وقضاياه وتعدد ثقافته، إلى ألخ. وبناء على هذه التجربة أصبحت ناشطة في مجال الدعم النفسي لأنه أصبح بمقدوري كباحثة أن أدخل إلى مكنونات الأشياء وفهمها والتعامل معها".
كيف بدأت القصة؟
إجبار الفنانة النجيلي على النزوح من مسكنها قسراً، والاتجاه إلى محافظة رفح أقصى جنوب القطاع لتقيم في خيمة وسط جموع النازحين (كان يقدر عددهم 1.5 مليون نازح)، ترك أثراً غائرا على صحتها النفسية، غير أنها رفضت كما قالت للاستسلام لحالة الخوف والقلق من انتظار الموت، وهذا كان المحرك الأساسي وراء قصة نجاحها كناشطة في مجال الدعم النفسي للأطفال النازحين وللفئات الهشة أيضاً.
وقالت: "انطلقت للوسط المحيط وبدأت في خلق حالة من التعزيز النفسي للفئات الهشة، رغم الاحتياج الماس للكثير من الأدوات (..) أخذت على عاتقي أن أتجاوز كافة العراقيل وأن أوجد بدائل قدر الإمكان، وبالتدريج بدأت الفكرة تنتشر وتقاطعت مع جهود مؤسسات محلية كانت تعمل على ذات الهدف".
ابتكرت الفنانة النجيلي أسلوباً خاصاً كما تقول في التعامل مع الأطفال على وجه الخصوص، "اعتمدت على الموسيقى والحركة والغناء الجماعي، إلى جانب أساليب أخرى كصناعة بيوت من رمال الشاطئ هذا كله بالنسبة للأطفال، أما الفتيات فعملنا معًا على صناعة الحليّ والأساور من الخرز، فيما عملت على تعزيز كبار السن عبر رواية التاريخ الشفهي المتعلقة بالنكبة الفلسطينية عام 1948، أما الثكالى فقمت بتشجيعهن على الزراعة واعتمادها كنموذج للصبر على الحالة القائمة وتخطيها".
واستطردت شارحةً تقنية الزراعة في التفريغ النفسي، "حين نزحت اصطحبت بذور الريحان، وعندما شعرت باستقرار نسبي في المحطة التاسعة للنزوح، خصصت مكانًا وقمت بزراعة البذور، وأحب الجيران النازحين الفكرة، وتدريجياً بدأت اساعد الثكالى منهن ممن فقدن أطفالهن أو أبنائهن أو أزواجهن على تجاوز المحن من خلال الزراعة كعملية تحتاج الكثير من الصبر والرعاية".
وأشارت إلى أن النساء أصبح لديهن اهتمام كبير بالأمر، حيث قامت بتعليمهن كيفية زراعة البذور، وريها وانتظار نموها وصولاً إلى حصادها، ومن ثم تقديم بقات الريحان إلى الجيران هبةً عن أرواح من فقدوا، مؤكدةً أن هذه الطريقة كانت بالنسبة للنساء اللواتي خضن التجربة محفزة على الصبر على المحن وتجاوزها.
عودةً إلى الفن التشكيل، أشارت النجيلي، إلى أنها تعلمت الفنون من خلال الممارسة والتدريب، حيث شاركت في معارض محلية عديدة، وينصب تركيزها على الفن المعاصر، غير أن النزوح وفقدان الخصوصية نتيجة للحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول الماضي على غزة، جعلتها تتوقف عن ممارسة الفن التشكيلي.
ومن الأصل كانت تستثمر الفنانة النجيلي موهبتها الفنية، في معالجة القضايا المجتمعية، قبل الحرب، لكن الأخيرة حفزتها على ممارسة أنشطة فنية أخرى غير الرسم، لمساعدة الآخرين على التفريغ النفسي، بعيدا عن النمطية القائمة.
وقالت" إن الفكرة هدفها الأساسي هو إخراج الطفل من أجواء الحرب إلى العالم الخاص به، لأن الكثير منهم قلبت حياتهم رأسًا على عقب، وفقدوا الكثير من حقوقهم، لذا فكان من الواجب ابتداع طرق جديدة كالغناء مثلا أو الأنشطة الحركية لمساعدة الأطفال على تجاوز الأزمة بفاعلية كبيرة، وقد كان لتلك الأنشطة أثراً إيجابياً ملموساً، إلى الحد الذي أصبح الأطفال ينتظرونني في الطرقات شغفاً بممارسة هذه الأنشطة التي تزيد من حيويتهم وفاعليتهم".
تبدي الفنانة النجيلي سعادة كبيرة بالنجاح الذي حققته، عبر إخراجها فئة كبيرة من النازحين، لاسيما الأطفال من حالة اليأس إلى التفاؤل. وقالت: "كم جميل أن يرى الإنسان ثمرة جهده، أنا وهم (تقصد النازحين) نرى ثمرة جهدنا فيما نفعل وهذا بحد ذاته يعكس انتصارنا على هذا الواقع على الرغم من سوداويته".
وتستعد النجيلي إلى القيام بأنشطة جديدة لاحقاً تتعلق بتعليم الأطفال النازحين أساسيات الرسم، "فبالفن يمكن أن نتجاوز الكثير من الصعاب" كما قالت.