عادةً ما يطلبُ الناجون من الحربِ فيزا سفر أو تأشيرة عبور طلباً للجوء إلى مناطق آمنة، أو الزحف نحو أراضٍ لا تخضع لسيطرة أو تهديد طرفي النزاع، أو مثلاً ملاجئ تحت الأرض للاحتماء من القصف. بيد أن يفتش ناجون شباب بين الطرقات بحثاً عما تبقى من مكتبات، وبين بسطات أقيمت على الأنقاض لأجل اقتناء كتب! ليس هذا فحسب، إنهم لا يعيرون الأطعمة اهتماماً فهم يفضلون شراء الكتب عليها، وهذا بالطبع لغزٌ يثير الفضول للبحث عن حلٍ له.
عبر طريق وعرٍ يزيد طوله عن سبعة كيلوا مترات يقع إلى الغرب من مدينة غزة، يحيطه دمار بالغ نال من مبانيه وبنيته التحتية ومحاله التجارية التي تناثرت لوحاتها ككتل من الخردة بين الأنقاض، وغاب عن المشهد صخب الحياة وأبواق السيارات وأقدام المارة التي كانت تزحف من كل اتجاه.
وسط كل هذا، تمرُ الشابة ملاك عبد الله رفقة شقيقتها هديل، كلتيهما لم تبلغ العشرين، ترمقان جانبي الطريق محاولتان الاستدلال على مكتبةٍ مشهورة كانت تتوسطه يزيد عمرها عن ربع قرنٍ. تحدث إحداهن الأخرى: "اعتقد هنا كانت المكتبة التي اعتدنا عليها (..) أحاول البحث عن يافطة هنا أو هناك استدل بها، نعم هذا هو شارع النصر على ما اعتقد"، ترد الأخرى "أنا لا اصدق هذا مطلقاً فهذه ليست الطريق".
وفي الحقيقة لا يمكن لأحد يمر للمرة الأولى عبر هذا الشارع وغيره المئات، الجزم المطلق بأنه يسلك طريقاً يألفه، إلا حين يعثر على معلم لايزال قائماً، نظراً لأن الحرب لم تبقِ شيئاً على حاله فقد غيرت معالم الحياة كافة. ومع ذلك واصلة الشابتان المسير بحثاً عن قبلتهما، بعد سؤال المارة: أين موقع المكتبة بين كل هذا الدمار؟
ها قد انتهى بهما المطاف على باب المكتبة، التي فتحت أبوابها مؤخراً كناجٍ من الحرب أو كشاهد على أنه لازال هناك شيئاً يتنفس بين كل هذا الدمار. تتبسم الفتاتان، تقول ملاك وهي الشقيقة الصغرى: "الحمد لله إنه لازال هناك شيء ما يعطينا الأمل، اسمه المكتبة".
ماذا يقرأ شابٌ ناجٍ من حرب؟
تسارعُ ملاك الخطى نحو الأرفف تتحسس الكتب كما لو أنها تلتقي صديقاً قطع الاتصال بينهما على مدار ثمانية أشهر، ثم تثبت أمام كتاب خطف بصرها فجأة يحمل عنوان "ليطمئن قلبي"، تختلط مشاعرها كتائهٍ عثر على ضالته، تقول متلهفةً بابتسامة فرح تلتها مسحة حزن اعتلت وجنتيها: "ها قد وجدت ما يجبر كسر قلبي".
ملاك وشقيقتها، فقدتا مسكنهما الواقع غرب المدينة بشكل كامل، واستشهد شقيقهما، وتعطل مستقبلهما التعليمي لأجل غير مسمى، حيث كانت الصغرى تدرس علم النفس، فيما الكبرى كانت تدرس إدارة الإعمال. وعلى الرغم من اختلاف التخصصات والرغبات لكن كان يجمع بينهما غرفة مشتركة فيها الكثير من الحب، والكتب والأحلام ببناء مستقبل حالم، لولا أن جاءت الحرب وبعثرت الكتب وهدمت أحلامهما كما آلاف الإناث اللواتي يشكلن نحو 49% من سكان قطاع غزة.
ومع ذلك لم تستلم "ملاك" وتقول إنها رغم حالة البؤس المسيطرة على المدينة التي عادت لتكافح شبح المجاعة مجدداً بفعل منع الاحتلال إدخال المواد الغذائية إلى محافظتي غزة والشمال، لكنها حريصة جداً على اقتناء الكتب، كي تعينها على تحقيق السلام النفسي والاستقرار بعدما احتاجتها أثار الصدمة النفسية وتغلغل الحزن في أعماقها، بفعل ما حل بها وأسرتها من فقد ودمار ونزوح متكرر.
تجتمع الفتاة وشقيقتها ليلاً على ضوء كاشف داخل صف مدرسي يتحصن فيه كمركز إيواء، يواصلن قراءة الكتب بشكل مشترك، كمساحة آمنة للنجاة من كل هذه الفوضى المحيطة، وبخاصة مع تعطل الانترنت والحرمان من مشاهدة التلفاز بفعل انقطاع الكهرباء بشكل تام، فضلاً عن عدم وجود مساحة شخصية كافية لممارسة أدوات التفريغ النفسي بفاعلية كتمارين التنفس أو الرياضة أو الكتابة أو غيرها.
ليست ملاك وهديل الوحيدتان اللتان تفعلان هذا، إذ يحاربُ سعدي محمد (29 عاماً) وقت فراغه واكتئابه بالكتب أيضاً، ويقول إنه وجد أخيراً ضالته بعثوره على كتاب (متاهة الأرواح) للكاتب كارلوس زافون، مشيراً إلى أن القراءة هي مساحته للخلاص من التوتر الذي ينتابه بتعطله عن العمل وفقدان مصدر رزقه بعد تدمير شركته الريادية والتي أسسها قبل نحو عامين.
قطع سعدي أيضاً مسافة لا تقل عن ثمان كيلوا مترات بحثاً عن الكتب، منتقلاً عبر شوارع غابت معالمها لعله يظفر بالحصول على العنوان المبتغى، بعد تحفيز زوجته التي احترفت الرسم بطريقة التعلم الذاتي، وشاركته عناء الطريق بحثاً عن ألوانٍ تعطيها مساحتها في صناعة لوحاتٍ فنيةٍ تعبر في مكنونها عن عمق التأثير الذي طال الشباب نتيجة الحرب التي تجاوزت شهرها الثامن.
ويصنع الزوجان عبر مناقشة محتوى الكتب مساء اليوم، دائرة تقاطع جديدة بينهما كي تساعدهما على الحفاظ على سلامهما النفسي. بعد الانتهاء من الكدِ اليومي.
يقول سعدي: "نحن لا نهرب من الواقع، لكن الكتب هي فرصتنا لاستعادة حيويتنا واستثمارا للوقت الذي انعدمت فيه أحلامنا وطموحنا، وبات منحصراً بين إشعال الحطب وجمع جالونات المياه والبحث عن طرود مساعدات".
يسلك طريقاً إلى الأسواق
ومن لم يجد ضالته من الشباب بين أرفف ما تبقى من مكتبات ناجية، لابد أن يسلك طريقاً نحو الأسواق المحلية التي أقيمت بين الأحياء السكنية بفعل الحرب بوصفها أكثر أمناً، حيث تتراص بسطات الكتب بين بساطات الأطعمة والبقوليات. وكأنها منافسة بين غذائي العقل والمعدة.
تقلبُ سارة عليان عناوين كتبٍ معروضة على بسطة صغيرة مقامة على أطراف ميدان فلسطين وسط مدينة غزة، أغلفة متهالكة حيث جمعت من تحت الأنقاض كما يقول صاحبها ويدعى "أمجد"، والذي لا يشترط على مقتنييها دفع الكثير من القيمة المادية، لاسيما مع إدراكه الكامل لواقع انتشار الفقر بين السكان، والذي يجعل غالبيتهم يفضلون شراء الطعام على الكتب، حسبما قال.
جمعت سارة التي ترتدي ثوباً مغبراً بفعل وعورة الطريق، عناوين متعددة بين يديها، قالت إنها على الأقل ستعطيها مساحة لمدة شهر لأجل مطالعتها، وهو وقت كاف بالنسبة لها لتحسين جودة حياتها التي انحصرت بين مساعدة أمها في الغسيل اليدوي والطهي على الحطب وغيرها من أعمال بدائية أجبرت النساء عليها نتيجة الحرب.
توضح سارة وهي في ربيعها الخامس والعشرين، أنها مولعة بمطالعة الكتب، وأن حقيبة الهروب خاصتها التي تحتوي أوراقها الثبوتية وشهادتها الجامعية في اللغة العربية، وتذكارات قديمة، لم تخلو من الكتيبات الصغيرة بوصفها أقل وزناً ويمكن الهروب بها، واستثمارها في المطالعة في أوقات الفراغ خلال النزوح.
وتبدي الفتاة اهتماماً كبيراً بالكتب التي تحتوي على الاقتباسات الفريدة للمفكرين العرب والأجانب، وكذلك كتب علم النفس، والقصص وروايات الجريمة، وقالت، إن الكتب بصرف النظر عن محتواها، فهي غذاء للعقل والروح، وتشكل مناعة ضد الكثير من التأثيرات السلبية للحروب والظروف الحياتية القاهرة التي تحد من قدرة الشباب على تحقيق ذواتهم.
وأضافت سارة "نحن في مجتمع لا يتقبل فكرة التعبير عن العلل النفسية بوضوح، لذا فإن الكثير منا يفضل المعاناة على الحصول على العلاج النفسي سواء عبر الأطباء أو الكوتشنج مثلاً، لذا فأنا أرى أن الكتب هي علاج للكثير من العلل بوصفها مساحة للتفريغ احياناً وقراءة أفكار خلاقة تخرجك من دائرة افكارك المغلقة إلى مساحة شاسعة تحسن من قدرتك على تقبل الحياة والصبر على ابتلاءها وتضعك أمام تحدي بناء مستقبل أفضل رغم كل الظروف والواقع الذي يفرضه الاحتلال علينا".
أمام هذا الاهتمام الكبير بالكتب، يقول محمد رشيد وهو يدير مكتبة تقع إلى الغرب من مدينة غزة، إن التهافت الحاصل على شراء الكتب غير مسبوق، وأن حجم المبيعات يتزايد يومياً، وبخاصة مع انعدام فرص التفريغ عن النفس والتواصل مع الآخرين بفعل انقطاع كافة أدوات الاتصال بالعالم الخارجي.
وأشار إلى أن غالبية زبائنه هم من فئة الشباب وبخاصة الإناث، ومعظمهم يميلون لاقتناء الكتب التي تخاطب المشاعر وتعمل على تحسين جودة الصحة النفسية، فضلاً عن الروايات العالمية التي يذيع صيتها، مرجعاً أسباب هذا الاهتمام باقتناء الكتب، إلى انقطاع الانترنت أعجز الشباب عن التعبير عما يجول بخواطرهم، لاسيما مع تعطل فرص التواصل بين الأصدقاء والصديقات نتيجة فصل القطاع شمالاً وجنوباً، وبالتالي عاد للكتاب وهجه بوصفه "خير جليس".