أرملةُ حرب حُرمت تسجيل مولودتها: إليكم قصة سماح

أرملةُ حرب حُرمت تسجيل مولودتها: إليكم قصة سماح

فقدت السيدة سماح (*) في ديسمبر الماضي زوجها وطفليها في قصف استهدف منزل أسرتها الواقع في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، بينما كانت تحمل في أحشائها جنين في شهره السابع.

معاناة مزدوجة كانت تعانيها سماح (32 عاماً)، بسبب إصابتها في إحدى ساقيها إصابة خطرة، إلى جانب معاناتها مع آلام الحمل. مر شهران كاملان على الحادثة الأليمة التي أفقدتها أيضاً مسكنها ولباس طفلتها المرتقبة التي كانت قد اختارت كل قطعة منه بعناية فائقة، وقد كانت قد اتفقت على تسميتها هي زوجها قبل ارتقاءه بـ"سلمى"، نسبة إلى عمتها التي فقدت في الأيام الأولى للحرب، حتى حانت ساعة الميلاد.

وضعت سماح طفلتها اليتيمة بعد مخاض عسير لم ترافقها فيه أمها كما اعتادت في المرتين السابقتين، لأنها فقدت في قصف مماثل طال مسكن أبيها. فيما الحماة كانت قد نزحت إلى جنوب القطاع رفقة ابنيها وأسرتيهما.

مع كل ذلك، قالت سماح "كنت اتشبث بالحياة لأجل طفلتي (..) لقد تحملت الكثير من الأذى النفسي والآلام الصحية، ومع ذلك استقبلتها بالكثير من السعادة، كنت اشتم رائحة أخويها الذين فقدتهم كلما جمعتها إلى صدري".

لم يكن سهل على تلك السيدة، أن تهدهد طفلتها كلما بكت، فكلما سمعت الأم صياحاً يتناهى إلى مسامعها صوت طفليها اللذان كانا يئنان قبل أن يفارقا الحياة، رغم ذلك وبدافع الأمومة، بدأت "سماح" باستعادة حيويتها في التفاعل مع طفلتها الوحيدة، حتى تعافت صحياً من الأذى وبادرت للسؤال عن كيفية تسجيل طفلتها لدى الدوائر الرسمية لأجل استخراج شهادة ميلاد.

هنا كانت الكارثة، حيث أن البيروقراطية الحكومية تستوجب إحضار الأب أو قريب من الدرجة الأولى من جانب الأب كالجد أو الجدة أو العم أو العمة. فيما أن جميعهم قد وقعوا بفعل الحرب بين قتيل ونازح في جنوب القطاع.

ترجو سماح الموظف الجالس خلف نافذة محاطة بالشبك داخل مركز صحي، ألا يُعقد عليها إجراءات التسجيل، فيما الأخير يرفض ذلك بداعي صرامة الإجراءات في هذا الأمر.

عن تلك اللحظة قالت والدمع ينساب من عينيها: "كم هو شعور بغيظ ألا تستطيعين كامرأة استخراج شهادة ميلاد لطفل/ة تحملينه/ا بين يديكِ كأنكِ لست الأم، أو أن المولود/ة بلا نسب". وأضافت "كم كنت متحمسة وأنا ذاهبة لتسجيل الطفلة باسم عمتها الشهيدة حفظاً لاتفاق ابرمته مع زوجي قبل ارتقاءه بأيام، وكم أصبت بالإحباط وخيبة الأمل وأنا عائدة دون قدرة على استخراج شهادة الميلاد".

بعد بحث دام أيام تحت ظلال الحرب، حول أقرباء من الدرجة الأولى شتتهم القذائف وباعد بينهم النزوح، عثرت سماح على عم زوجها وهو رجل تجاوز الستين من عمره، وبالكاد اسعفته صحته اصطحابها إلى المركز الصحي وقد أقسم يمين مغلظاً أمام الموظف أن تلك المولودة من صلب أبن أخيه الشهيد، وهذه السيدة (أي سماح) هي أمها، حتى مضى في إجراءات تسجيل الطفلة واستخرج شهادة ميلادٍ لها".

صحيح أن سماح تمكنت في نهاية المطاف من استخراج شهادة ميلاد لطفلتها، لكن بالتأكيد هناك أرامل أخريات لم يتمكن من ذلك، لأن ألسنة النار لم تخمد بعد.  علماً أنه يوجد في قطاع غزة 50 ألف امرأة حامل، فيما تلد 180 امرأة يومياً، غالبتيهن يفتقدن إلى الرعاية الصحية.

ولا تتوفر إحصاءات حول الأرامل اللواتي وضعن مواليدهن خلال الحرب التي نشبت في السابع من تشرين الأول الماضي ولم تزل، دون وجود أفق لوقف إطلاق النار.

وبصرف النظر عن أعداد الحوامل من الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن خلال الحرب، فأنه من المؤكد أن بعضهن ممن فقدن أقرباء من الدرجة الأولى من جهة الأب أن يواجهن ما واجته "سماح"، غير أن غالبتيهن سيقعن في دوامة البحث عن مركز حكومي لتسجيل مواليدهن، وبخاصة بعدما سحقت الحرب عناوين الشؤون المدنية التابعة إلى وزارة الداخلية في حكومة غزة، بعد تدمير ما يزيد عن 130 مبنى حكومي على مستوى القطاع.

بمعنى آخر، ستصبح إجراءات تسجيل المواليد واستخراج شهادات الميلاد في الكثير من المناطق الخطرة من القطاع، معلقة بلا أجل. عدا عما يترتب على ذلك من تعليق إضافة اسم المولود إلى البطاقة الشخصية لولي الأمر سواء كان ذكراً أو أنثى.

إلى جانب ذلك، فقد أعاق غياب المراكز الحكومية الخاصة بتسجيل المواليد، سفر العديد من الأسر التي تنوي مغادرة القطاع تحت وطأة الحرب، نتيجة عدم تسجيل الأطفال حديثي الولادة في الأوراق الثبوتية الخاصة بأولياء أمورهم.  

وعانت المئات من النساء الحوامل في غزة، خصوصاً من عمليات النزوح المتكررة خلال الحرب فضلاً عن قتل عدد منهن، وهو أمر يتعارض تماماً مع ما نص عليه القانون الدولي الإنساني، الذي يمنح النســاء الحمايــة العامــة المقــرة للمدنييــن فــي أوقــات النــزاع، بمــا فيهــا الحــق بالمعاملـة الإنسـانية فـي جميـع الأوقـات، والحـق فـي الحمايـة مـن الأعمـال العدائيـة.

كمـا يأخـذ القانـون بعيـن الاعتبـار كونهـن أمهـات وربمـا يكـن عرضـة لأنـواع معينـة مـن العنـف ممـا يلـزم ضمـان حمايـة خاصـة لهـن، فقـد نصـت المـادة (١٦) مـن اتفاقيـة جنيـف الرابعـة: "يكـون الجرحـى والمرضـى وكذلـك العجـزة والحوامـل موضـع حمايـة واحترام خاصين".

ومع ذلك، تعانـي جميـع النسـاء فـي قطـاع غـزة، منـذ بـدء الحرب ضروبــا مختلفــة مــن الانتهــاكات الجســيمة لحقوقهــن كمدنييــن، لتأتي البيروقراطية وتزيد من مأساتهن في تسجيل مواليدهن الذين وضعهن في ظروف محاطة بالكثير من الرعب.

 

(*) اسماء مستعارة