لم يعد المواطن الفلسطيني حسين كريزم (31 عاماً)، من سكان بلدة جباليا شمال قطاع غزة، قادراً على الحركة وأصبح طريح الفراش بعدما نفذ مخزونه من العلاجات اللازمة لحالته الصحية، حيث يعاني من مرض التلاسيميا مذ كان طفلاً.
قال كريز، وقد نال الألم قسطاً كافياً من جسده ووجه الشاحب، "اعاني مضاعفات خطيرة جداً، وذلك نتيجة انقطاعي لفترة طويلة عن تناول الادوية الطاردة للحديد، وهي غير متوفرة في مناطق شمال القطاع حيث أتواجد الآن".
ويمنع الجيش الإسرائيل الذي يفصل القطاع إلى قسمين، تدفق الاحتياجات الطبية العاجلة، وكذلك السلع والمواد الغذائية لشمال غزة، منذ شن الحرب على القطاع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، الأمر الذي عزز المجاعة في صفوف المدنيين وضاعف معاناة المرضى، وبخاصة بعدما أخرج المشافي عن الخدمة.
ليس انقطاع الأدوية وحده الذي يعانيه المريض "كريزم"، إذ يواجه أيضا معاناة مضاعفة نتيجة عدم توفر وحدات الدم أيضاً، مع انهيار العمل في مختبرات مستشفيات في شمال القطاع.
وقال "مع بداية الحرب لم نستطع الوصول إلى مركز الخدمة المتخصص في مستشفى الصداقة التركي الواقع في المحافظة الوسطى، لصعوبة توفير وسائل المواصلات وقتها، فتوجهت مع عدد من زملائي المرضى لمستشفى الشفاء للحصول على وحدات الدم، والتي تم توفيرها لنا بصعوبة كبيرة بسبب الضغط الكبير الناتج عن تزايد أعداد الجرحى".
غير أنه عاد وأوضح، أن تلك الوحدات التي تلقاها هو زملائه المرضى، لم تخضع لعمليات فحص للتأكد من خلوها من الفيروسات، لاسيما مع عدم استخدام فلاتر الدم، وهذا ما قال إنه عرضهم لخطر الإصابة بأمراض أخرى.
وتعتبر تجربة المريض كريزم نموذجاً لمعاناة جميع المرضى في مدينة غزة وشمالها، حيث يعاني (305) مريضاً/ـةً بالتلاسيميا منهم (80) طفلاً، موزعون على مستوى قطاع غزة، وفقاً لجمعية أصدقاء مرضى التلاسيميا.
ولا زال محاصراً في شمال غزة (63 مريضاً)، علماً أن جميعهم يحتاجون إلى عقاقير خاصة تصرف لهم على مدى الحياة، وفقدانها يشكل خطراً على حياتهم، وفق إفادة أطباء.
تكافح المواطنة سامية علي (*) ثلاثية الجوع والفقر والمرض في شمال غزة، حيث تعاني من مرض التلاسيميا، وتعاني عجزا في العلاجات، الأمر الذي يدفعها للتفكير بجدية في الانتقال إلى جنوب القطاع.
وقالت المريضة علي: "منذ أكثر من ستة أشهر لم أتمكن من مراجعة أي طبيب متخصص بأمراض الدم لتشخيص ظروفي الصحية وتحديد الكمية المطلوبة من الأدوية أو طرح أدوية بديلة، كما أنه لم تتوفر لنا أي صنف دوائي سواء EXJADE الذي يُعطى على هيئة أقراص، أو DESFERAL الذي يُعطى مباشرة ً في الوريد، وهي أدوية يتم صرفها من خلال وزارة الصحة فقط، وغير متوفرة في الصيدليات الخاصة".
تعاني هذه المريضية، وهناً شديداً وفقدت قدرتها على الحركة أيضاً، نتيجة عجزها عن الحصول على الجرعة الدوائية منذ أكتوبر الماضي، وتحاول الاستعاضة عن ذلك بالإكثار من شرب الشاي لتقليل جزء من الخطر الذي يتسبب به الحرمان من العلاج.
من جهته أوضح الطبيب مطاوع سعد (*)، إن مضاعفات انقطاع مرضى التلاسيميا عن تناول هذه الأدوية، تؤثر بشكل كبير على قدرتهم على استعادة حيويتهم بصورة مثلى خلال وقت قصير.
وقال سعد: "فقدان العلاج بالنسبة لهؤلاء المرضى يبطئ من عودتهم للحالة الصحية المستقرة على المدى الزمني القريب، ويشكل خطراً حقيقياً على حياتهم خصوصاً إذا تراكم الحديد في أجسامهم".
وبين أن تراكم الحديد في البنكرياس يؤدي إلى الاصابة بمرض السكري من النوع الأول، فيما أن تراكمه في الكبد يتسبب بتليفه، بينما ترسبه في القلب يعتبر من أبرز أسباب الوفاة لمرضى التلاسيميا.
وتوفي (18) مريضاً/ــةً بالتلاسيميا منذ بداية الحرب على قطاع غزة، فيما يصارع نحو (10) مرضى/ـات الموت بعد تدهور حالتهم الصحية، وفق إفادة إبراهيم عبد الله، منسق جمعية أصدقاء مرضى التلاسيميا.
وأوضح عبد الله أن معظم هؤلاء المرضى لجأوا إلى المستشفيات في بداية الحرب ليكونوا بالقرب من أماكن المتابعة الطبية، ومع استهداف هذه المستشفيات قُتل مريضين منهم، فيما يواجه باقي المرضى خطر الوفاة بسبب النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، لا سيما (63) مريضاً/ــةً ممن تبقوا في مدينة غزة وشمالها.
ليسوا مرضى التلاسيميا وحدهم الذين يصارعون خطر الموت نتيجة فقدان العلاج، حيث يعاني حوالي (105) مرضاً من مرضى (الهيموفيليا) وهو اضطراب وراثي نادر ينجم عن نقص أو غياب أحد عوامل التجلط في الدم (البروتينات).
ويشيع هذا المرض غالباً بين الذكور؛ حيث ينزف المصاب به بعد الإصابة لفترة أطول أكثر من الشخص الطبيعي، ويحتاج المريض إلى أدوية يتناولها مدى الحياه أهمها (FACTOR8 ) و (FACTOR9).
وأوضح أشرف الشنطي مدير جمعية أصدقاء مرضى التليف الكيسي في قطاع غزة، أنه ومنذ الأيام الأولى للحرب على القطاع، واجه مرضى الهيموفيليا تحديات كثيرة منها نقص الأدوية الذي يؤدي فقدانها إلى تلف الأعضاء والأنسجة لدى المرضى/ـات.
وأكد الشنطي تراجع الحالة الصحية للمرضى، نتيجة ضعف المتابعة الطبية، وبخاصة بعد سفر اثنين من أصل خمسة أطباء يتابعون أمراض الدم الوراثية، لافتاً إلى أن هؤلاء المرضى يعتبروا الأكثر تأثراً في حالة الإصابة مع استمرار الحرب، فهم معرضون للموت نتيجة صعوبة حصولهم على أدويتهم، بما يشمل الأدوية المسكنة.
وتوفي على أثر الحرب التي دخلت شهرها السابع، (23) مريضاً/ــةً من أصل (360) مريضاً/ـةً بالتليف الكيسي، وهو اضطراب وراثي يُسبب تلفاً شديداً في الرئتين والجهاز الهضمي والأعضاء الأخرى في الجسم، ويحتاج المرضى للتعايش معه الكثير من الأدوية والعلاجات المزمنة كـ creon، وGentoycin، وأصناف من الحليب العلاجي بالإضافة إلى الفيتامينات بكافة أنوعها، حيث شكل نفاذ هذه الأدوية خطراً كبيراً على حياتهم.
وقد تم اخلاء عدداً من هؤلاء المرضى في حالة الخطر الشديد من مدينة غزة وشمالها للمتابعة في مستشفيات جنوب القطاع، والتي لم تقدم حسب إفادة العديد منهم، أي خدمة طبية بسبب الأوضاع الكارثية التي حلت بها، ليتقرر تحويل نحو (20) مريضاً/ــةً في حالة الخطر الشديد للعلاج خارج قطاع غزة، نجحت (6) حالات فقط بالخروج من القطاع حتى الآن.
المريضة ملاك حسن (22عاماً)، هي واحدة من المصابات بالتليف الكيسي، وقد ساءت حالتها بسبب نقص الأدوية والظروف الصعبة التي فرضها العدوان على مرضى غزة، ما استدعى تحويلها إلى جمهورية مصر لتلقي العلاج المناسب، بينما توفيت شقيقتها "ألاء" ( 24 عاماً) والمصابة بذات المرض، وفق إفادة الأب.
وقال جمال حسن (52 عاماً)، إن ابنتيه كانتا متعايشتين مع مرضهما من خلال الالتزام بنمط العلاج المناسب رغم صعوبة توفير بعض الأدوية قبل الحرب، إلا أنهن بعد انقطاعهن عن دوائهن ازدادت حالتهن سوءاً طيلة الأشهر السابقة.
وأضاف الأب "لم أتمكن من توفير الأدوية لبناتي خصوصاً مع عدم قدرة جميع المرضى للوصول إلى مراكز العلاج المتخصص، وكانت التحديات تحيط بنا من كل جانب بعد أن نزحنا إلى مخيم النصيرات ولم تتمكن بناتي من استخدام جهاز التبخيرة بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، بالإضافة إلى صعوبة توفير المكملات الغذائية والفيتامينات".
يسرد الرجل معاناة ابنتيه مع الحرب، قائلاً: "اللحظة الفارقة في حياتهما كانت في اللحظة التي تعرض فيها مبنى مجاور لنا للقصف المباشر بتاريخ 31 أكتوبر2023، وبسبب استنشاقهما الغبار والأتربة ورائحة البارود، ولحساسية وضعهما الصحي ساءت وتدهورت حالة كل من آلاء وملاك، وبدأت أعراض خطيرة تظهر عليهما كصعوبة التنفس، واصفرار العينين، وانتفاخ كبير في البطن وألم في المعدة، يصاحبه أوجاع في الصدر، وضعف عام في العضلات أفقدهما القدرة على الحركة".
ولفت إلى أنه سارع بالتوجه إلى مستشفى غزة الأوروبي بمحافظة رفح، لمتابعة حالة ابنتيه الطبية، إلا أن عدم وجود طاقم طبي متخصص بعد سفر الكثير من الأطباء حال دون تلقي العلاج المناسب، على أثر ذلك تدهورت حالة آلاء وتوفيت في التاسع من يناير الماضي، فيما أن ملاك عانت من إجراءات بطء استصدار تحويلة علاجية إلى أن تمكنت من السفر بتاريخ التاسع من إبريل الحالي.
ويتعارض واقع المرضى في قطاع غزة في ظل الحرب، مع ما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة، فهو مخالف لما ورد في المادتين (55-56)، خصوصاً بعدما أدت إجراءات الاحتلال بعدم السماح بالدخول الحر لإرساليات الأدوية وبالكميات الكافية إلى شمال غزة، لوفاة عدد من المرضى.
في ضوء ذلك، حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان والذي يتخذ من قطاع غزة مقراً له، من استمرار معاناة مرضى القطاع، وخاصة مرضى الدم والأمراض الوراثية، نتيجة النقص الحاد والخطير في أدويتهم، وما يترتب عليه من تداعيات خطيرة تهدد حياتهم مع استمرار الحرب للشهر السابع على التوالي.
وأكد على وجود دلائل حقيقية تشير إلى أن قوات الاحتلال تُصر على دفع مئات المرضى للنزوح قسراً من شمال القطاع إلى جنوبه، في الوقت الذي وجهت ضربة قاسية ودمرت أهم مجمعين طبيين في القطاع، هما مستشفيي الشفاء بغزة وناصر بخان يونس، ما يعني القضاء على آمال المرضى بتلقي الخدمات الطبية الملائمة في جميع المحافظات.
وقال المركز في تصريح صحفي له "تكريسا لجريمة إبادة جماعية تتضمن إخضاع سكان القطاع بما فيهم المرضى، بشكلٍ متعمد لظروف معيشية يراد بها التدمير المعنوي والمادي كلياً أو جزئياً، وذلك وفق المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية للعام 1948".
وطالب المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، المجتمع الدولي بضرورة إجبار اسرائيل على وقف الحرب والحصار على غزة، كما دعا الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة بضرورة الضغط من أجل وقف انتهاكات الحق في الصحة التي ترتكبها اسرائيل بصفتها القوة القائمة بالاحتلال ويقع على عاتقها مسؤولية كفالة واحترام حقوق الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها وحمايتها.
(*) أسماء مستعارة