أطفال غزة يواجهون الفقد والعزلة

أطفال غزة يواجهون الفقد والعزلة

تجلس الفلسطينية تهاني عبد الله (*) يومياً وحيدة في حجرة أمام دولاب طفلها الذي فقدته في الحرب على قطاع غزة. فقدت تهاني (27 عاماً) طفلها ذو الأربع سنوات، قبل خمسة أشهر، ولم يكن الوقت كفيلاً بمحو حزنها، حيث تحمل قميصه بين يديها وتشم رائحته بشكل يومي.

 تعاني الأم آلاماً نفسية عميقة نتيجة الفقد، أثرت على تفاعلها من أسرتها، وتقول إنها تفضل غالباً أن تقضي وقتها منفردة، وأن ذهنها دائماً يستحضر مشهد قتل طفلها، حين باغت الآلية العسكرية الحي السكني الذي تقطنه وأطلقت النار عليه فأردته قتيلاً، بينما كان يلهو رفقة ابنة عمه أمام مدخل البناية. 

تقول الأم وهي تعمل في سلك التعليم: "كنت أحاول إسعافه بأي طريقة لكنه فارق الحياة من الفور (..) كنت أصرخ بشدة وأنا أجد نفسي عاجزة عن إعادة ابني للحياة"، منذ ذلك الحين خرت قواي ولم يعد لدي طاقة على فعل شيء أو التفاعل مع الحياة بالحيوية التي كنت عليها قبل الحرب.

وبلغ مجموع الشهداء من الأطفال منذ بدء الحرب حتى تاريخ السابع من إبريل، أكثر من 14 ألف طفل، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.  

وتمتد أثار الحرب على أطفال غزة، فمن نجى منهم إما فقد أما أو أبا أو أخا أو صديقاً أو مسكناً أو مدرسةً أو حديقة، وعلى الرغم من محاولات التعافي الذاتي التي تتعبها غالبية الأسر قسراً لا ترفاً تحت وطأة النزاع فإن الكثير من الأطفال ما زالوا يقعون تحت تأثير صدمة الفقد، الطفل عصام سليم (*) (9 سنوات) واحدا من هؤلاء الأطفال.

لم يتجاوز الطفل عصام كافة اختبارات الرسم التي تبنتها عمته كمحاولة منها لإخراجه من عزلته وانطواءه والتخفيف من حدة العنف والعصبية التي يعانيها بعد فقدان والده في الخامس والستين للحرب على غزة.

ومذ تعرض الطفل سليم، هو وأسرته للحصار من قبل الآليات العسكرية الإسرائيلية غرب مدينة غزة، وارتقاء والده، تقول عمته عبير (31 عاماً) إنه أصبح منطوياً بشكل كبير جداً، وفي أغلب الأوقات يقضم أظافره وأصبح يعاني تبولاً لا إرادياً.

الحالة التي يعانيها الطفل سليم، تتقاطع مع أطفال كثر في قطاع غزة دون سن 18 سنة، والذين يتجاوز عددهم أكثر من مليون وستين ألفاً، منتصف العام 2024.

الأزمة النفسية التي يمر بها شريحة كبيرة من أطفال قطاع غزة بفعل الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، يرجح مختصون نفسيون أن تكون عائدة إلى جانب مخاطر الحرب، لفقدان أقارب من الدرجة الأولى كالأب والأم أو لفقدان أصدقاء وزملاء في مقاعد الدراسة، فضلا عن عدم الشعور بالأمان.

وفاقمت الحرب التي لا يوجد أي أفق سياسي ينبئ بقرب انتهائها، واقع الأيتام، حيث بلغ عدد الأطفال الذين يعيشون دون والديهم أو دون إحداهما في قطاع غزة أكثر من 43 ألفاً.

 من جهته، قال المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة، يونيسف، جيمس إلدر، في تصريح صحفي، إن هناك كثيرًا من الأطفال الذين فقدوا والديهم، لكن الأسوأ من ذلك أنهم فقدوا عائلاتهم بأكملها".

وأوضح أن الأقارب أو الجيران عادة ما يتقدمون لرعاية الأطفال الأيتام، وكانت هناك حالات خطيرة لم يكن فيها أحد على قيد الحياة ليتولى أمر الأطفال.

وقال: "التقيت بأطفال، عادة في المستشفيات لأنهم أصيبوا حين تعرض منزلهم للقصف، فقدوا أمهاتهم وأبيهم وأجدادهم، وعماتهم وأعمامهم وخالاتهم وأخوالهم، وإخوتهم، والجميع... حين يكون الطفل هو آخر فرد على قيد الحياة من أفراد الأسرة، فهذا يعني أن ثمة مشكلة حقيقية".

وفي ظل الدمار الذي خلّفته الحرب في شهرها السادس، تبرز قصص الأطفال الذين يواجهون تحديات جسيمة في سعيهم للبقاء والعيش بكرامة. من بين هؤلاء الأطفال، يبرز اسم محمد عامر، البالغ من العمر 13 عاماً، الذي يعيش في مدينة غزة برفقة أمه وأشقائه بعد ارتقاء والده الذي كان معيل الأسرة ومصدر دخلها.

بعد أن فقد محمد والده الذي كان يعمل كعامل مياومة في القطاع السياحي، وجدت أسرته نفسها في مواجهة تحديات جديدة وصعبة. لم يكن هناك مصدر دخل ثابت للأسرة بعد رحيل الأب، مما دفع محمد إلى التحمل المسؤولية والبحث عن سبل لكسب لقمة العيش.

اليوم، يعمل محمد على بسطة صغيرة يعرض من خلالها الحلوى والسكاكر التي تعدها والدته في مطبخها. يتوجب على محمد العمل بجد لمدة 6 ساعات، بعيداً عن حقه الطبيعي في اللعب والترفيه كبقية أطفال العالم.

ولا يعلم محمد وغيره المئات من الأطفال شيئا عن حظر القانون الفلسطيني عمالة الأطفال دون سن الـ18 عاماً، ولا أي من حقوق الأطفال التي اشتملت عليها المواثيق الدولية. وأكثر ما يثير انتباههم الآن هو المشاركة في تحمل مسؤولية تأمين لقمة العيش لأسرهم.

يواجه "محمد" صعوبات أخرى، حيث تعرّضت مدرسته للتدمير خلال الحرب، مما حرمه من حقه في الحصول على التعليم والتطور الشخصي، وقد أثر تعطيل العملية التعليمية في قطاع غزة منذ بدء الحرب على مستقبل 620 ألف طفل.

ناهيك عن الظروف النفسية القاهرة التي يعانيها الأطفال، فإن هناك أزمة صحية أيضاً تتعلق بارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد والهزل الشديد، وبخاصة للأطفال تحت سن الثانية.

وبحسب منظمة اليونيسف، فإنه يعاني 31 بالمائة - أو 1 من كل 3 أطفال دون سن الثانية - في شمال قطاع غزة من سوء التغذية الحاد، وهو ارتفاع مهول مقارنة بـ 15.6 بالمائة في كانون الثاني/يناير. وينتشر سوء التغذية بين الأطفال بسرعة ويصل إلى مستويات مدمرة وغير مسبوقة في غزة بسبب الآثار واسعة النطاق للحرب والقيود المستمرة على توصيل المساعدات.

في الأثناء قال عمر شاكر، مدير شؤون إسرائيل وفلسطين في منظمة هيومن رايتس ووتش: "ثبت أن استخدام الحكومة الإسرائيلية التجويع كسلاح حرب يقتل الأطفال في غزة. على إسرائيل إنهاء جريمة الحرب هذه، ووقف هذه المعاناة، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى جميع أنحاء غزة دون عوائق".

بعد مرور 6 أشهر على الحرب، تتزايد حاجة أطفال قطاع غزة إلى العديد من التدخلات، فهم يعانون من نقص في الموارد الأساسية مثل المياه والغذاء والدواء. بينما تظهر الأنقاض المتناثرة حولهم تذكيرًا بمأساة الحرب، ويواجهون تحديات كبيرة في الحصول على التعليم والحفاظ على صحتهم وسلامتهم.

على ضوء هذه الأزمة يقول أخصائي الصحة النفسية محمد مهنا إن السبيل الوحيد للتعامل مع الآثار النفسية السيئة التي يعانيها الأطفال نتيجة الحرب على غزة، هو حرص الأهالي للاستماع إلى أطفالهم وإعطائهم مساحة للتعبير عن مشاعرهم تجاه الخوف الذي يعانون منه، أو أثار الفقد والحرمان.

وأوضح منها أن أثار الحرب النفسية السيئة على الأطفال لا يمكن علاجها آنياً وربما تدوم بعض الوقت، لا سيما أن الخطر لم يزل قائما، وإزاء ذلك فإن ما يمكن للأهالي القيام به هو إعطاء الأطفال مساحتهم في التعبير عما يجول في خواطرهم واحتضانهم ومحاولة احتوائهم وإشعارهم بالأمان قدر المستطاع.

وعن أدوات التفريغ النفسي التي يمكن للأهالي اتباعها في محاولة للسيطرة على الحالة النفسية المتردية التي يعانيها أطفال القطاع خصوصا أولئك الذين فقدوا أفرادا من أسرهم أو بيوتهم وكذلك النازحون، فقال "هناك العديد من أدوات التفريغ والتي في مقدمتها عزل الأطفال عن مواطن الخطر قدر المستطاع، وحجب وسائل الإعلام عنهم، وابتكار وسائل كالرسم بالألوان أو أقلام الرصاص واستخدام أدوات الرياضة إن توفرت كالقفز عن الحبل أو الحجلة وغيرها، أو رواية القصص لهم وإثارة التنافس فيما بينهم من خلال المسابقات".

وقبل الحرب الأخيرة، كان القطاع، يضم خمس مؤسسات رئيسة لرعاية الأيتام، حدّدها الباحث محمد عودة في رسالة الدكتوراة الخاصة به عن "دور المرشدين في مؤسسات كفالة الأيتام بمحافظات غزة"، وهي: "معهد الأمل للأيتام، جمعية الصلاح الإسلامية، وقرية الأطفال لرعاية الأيتام S.O.S، وجمعية مبرة الرحمة، والجمعية الإسلامية الخيرية".

ولكن في المقابل، وفي ظل خروج تلك المؤسسات عن الخدمة نتيجة الحرب، فقد يصعب تقديم خدمات الإيواء والرعاية والتعليم وتوفير المأكل والملبس بالنسبة للآلاف من الأطفال الأيتام.

ويعد هذا الواقع خرقاً لما نصت عليه قوانين الطفل العالمية ومعايير حقوق الإنسان التي تؤمن للأطفال حماية خاصة، كما تحظر القوانين إساءة معاملة الأطفال أو تعذيبهم أو تخويفهم ويُساءل كل من يقوم بذلك وفقاً للقوانين. 

ويمنح القانون الدولي الإنساني والمعاهدات المناسبة المتعلقة بحقوق الطفل حماية خاصة للأطفال الذين لا يشاركون في النزاعات المسلحة ويواجهون جملة من المخاطر. ويحظى هؤلاء بالحماية العامة التي يتمتع بها المدنيون غير المقاتلين، إلا أن احتياجاتهم الخاصة للمساعدة الطبية والغذاء والمأوى والملبس معترف بها في اتفاقيات جنيف وبروتوكوليهما لعام 1977.

كما ويجب بحسب القانون الدولي الإنساني، التعرف على الأطفال الذين تيتّموا أو انفصلوا عن عائلاتهم وحمايتهم بالإضافة إلى توفير المرافق الخاصة التي تضمن سلامتهم البدنية. كما يجب تلبية احتياجاتهم في مجال التعليم. ومن الضروري، في الوقت ذاته، اتخاذ كل التدابير الملائمة لتسهيل لمّ شمل العائلات التي انفصلت مؤقتاً، حسب منظمة الصليب الأحمر الدولي.

وبالتالي، فإنه من الضرورة بمكان أن يعمل المجتمع الدولي جنباً إلى جنب من أجل الحفاظ على حياة الأطفال في مناطق النزاع، كي لا يكون عرضة للقتل أو الاستهداف، وحتى لا يتأثروا بالحرب والدمار الناتج عنها، ويجدون أنفسهم يتحملون أعباءً كبيرة في سن مبكرة، دون أن يكون لديهم القدرة على التمتع بحقوقهم الأساسية كأطفال.

 

(*) أسماء مستعارة