في ظلّ الحرب والظروف القاسية التي يمر بها قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، تظهر النساء الفلسطينيات كبطلات حقيقيات رغم ثقل التحديات، إذ يبذلن جهودًا مضنية للتخفيف من تأثير الصراع على نفسيات الأطفال بصفتهم أكثر الفئات الهشة المعرضة للخطر.
لم ينجُ أحد من أطفال القطاع والذين يزيد عددهم عن 800 ألف، من الآثار النفسية السلبية للحرب التي بثت العنف والدمار حولهم، ولكن في المقابل، وفي مثل هذه الظروف الصعبة لم تستسلم النساء وقمن بتوجيه الرعاية والدعم النفسي وتوفير الأمان والحماية وتعزيز التعليم وتشجيع اللعب والتسلية، للأطفال، سعياً وراء خلق بيئة أفضل وأكثر استقرارًا.
ومع ذلك، تعاني الأمهات بصمت وسط حالة الحرب، فالكثير منهن لا يملكن رفاهية الانهيار، ومنهم فاطمة محمد (*) الأم التي وجدت نفسها أمام تحدٍ كبير: كيف تحمي أطفالها وتخفف عنهم وطأة الحرب؟
عاشت الأم فاطمة غرب مدينة غزة، مع أطفالها الثلاثة، محمد ولينا ولبنى. وكانت شقتها السكنية ملاذًا آمناً محاطة بالسلام والاستقرار، ولكن للأسف، لم تدم هذه السلامة طويلًا وانقلبت حياتها وحياة سكان غزة رأسًا على عقب وأصبح الموت يحيط بكل شيء، مذ بدأت الحرب على القطاع المقام على مساحة 365 كلم2 والذي عانى من حروب وصراعات عديدة على مدار عشرين عاماً الأخيرة.
لم يكن أمام فاطمة (32 عاماً) والتي كانت تقيم في شمال غزة، خياراً سوى الفرار مع أطفالها بحثاً عن مكان آمن، لم يكن لديهم وقتًا لجمع الأشياء، لقد كانت الحياة أهم من أي شيئًا آخر، وصلت وأطفالها إلى مخيم للنازحين في رفح أقصى جنوب القطاع، حيث كانت الخيام تملأ المكان، والناس يعيشون بأقل الظروف المعيشية. اضطرت فاطمة وأطفالها للعيش في خيمة صغيرة.
فاطمة أرملة تعمل في قطاع الصحة، اضطرت لاستخدام القصص والألعاب لتشتت انتباه أطفالها وتخفيف توترهم. وقالت إنها كانت تروي لهم قصصًا عن البطولة والأمل، وتشاركهم في ألعاب تسلية تجعلهم ينسون لحظات الخوف، كانت تدرك أن قوتها الحقيقية كأم تكمن في قدرتها على تقديم الدعم النفسي والعاطفي لأطفالها في كل الظروف، في الوقت الذي هي بحاجة لمن يخفف من صدمتها.
أطفال فاطمة الثلاثة بجانب 816 ألف طفل في قطاع غزة، هم بحاجة إلى مساعدة نفسية من آثار الحرب التي تجاوزت يومها الـ200. يرجح مختصون نفسيون أن تكون الآثار النفسية التي يعانون منها عائدة إلى جانب مخاطر الحرب، لفقدان أقارب من الدرجة الأولى كالأب والأم أو لفقدان أصدقاء وزملاء في مقاعد الدراسة، فضلا عن عدم الشعور بالأمان.
ما يتعرض له أطفال غزة من مخاطر، يتنافى مع ما تنص عليه المادة رقم 11 من قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004م أن لكل طفل الحق في الحياة وفي الأمان على نفسه. كما أنه يتعارض مع الاتفاقات الدولية التي تنص على ضرورة حماية المدنيين في مناطق الصراع بما فيهم الأطفال والنساء.
"أتساءل دوماً كيف يمكنني تخفيف العبء عن أطفالي وإعطائهم الشعور بالأمان في هذه الظروف القاسية؟" هذا ما قالته سلوى عامر (*)، (39 عاماً) التي وجدت نفسها في موقف صعب للغاية، وتعاني من العجز عن حماية أطفالها وتوفير الأمان لهم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها وتحاول بكل جهدها أن تكون قوة داعمة لهم، لكنها تجد نفسها تتألم داخلياً بسبب عجزها عن توفير الحماية الكافية لهم.
وأضافت عامر التي تقطن شمال القطاع: "أنا لا أستطيع إخفاء خوفي عندما يسمع أطفالي القصف يقع بجانبنا، ولكن يجب عليّ أن أجد طريقة لتهدئة خوفهم في هذه الحرب القاسية التي نعيشها في غزة."
وإلى جانب الخوف والفزع من الضربات العسكرية الجوية والبرية، فإن عامر تعاني شظف العيش نتيجة عدم توفر مصدر دخل لها ولأسرتها، وعدم قدرتها على اقتناء الخضراوات باهظة الثمن التي دخلت مؤخرا إلى القطاع بعد مجاعة تسببت بوفاة 30 طفلاً.
"الكارثة أنه من غير المعروف متى ستنتهي الحرب"، تقول عامر، مشيرة إلى أن ظروف أسرتها المالية تردت بعدما تعطل زوجها عن العمل منذ اليوم الأول للحرب. وقالت: "نحن نعيش صراعا داخليا كأمهات لكننا لا نملك ترف الاكتئاب في الوقت الراهن، وبخاصة أن لدينا أطفالاً بحاجة إلى رعاية واهتمام وهذا في نظري أعظم مقاومة في التاريخ".
وتتزايد التحديات أمام النساء الفلسطينيات في قطاع غزة، يوماً بعد آخر نتيجة انعدام كامل لكافة المقومات الحياتية بما في ذلك الرعاية الصحية والحرمان من فرص الدخل، فضلا عن الحرمان من غاز الطهي، والذي يضطرهن لإشعال الحطب تحت مواقد الطهي في المناطق المفتوحة، وهو أمر يعرضهن لخطر للإصابات المباشرة أو القتل.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، حتى تاريخه، هنالك ما يزيد 9,752 شهيدة من إجمالي عدد الشهداء البالغ 347 ألف شهيداً. كما تجدر الإشارة بأن ما نسبته 72% من إجمالي عدد الجرحى والبالغ 72,156 جريحاً هم من الإناث.
كما شكّل النساء والأطفال ما نسبته 70% من المفقودين في قطاع غزة نتيجة الحرب، والبالغ عددهم 7000 شخص. ونزح 1.9 مليون نسمة بينهن نحو مليون امرأة وفتاة، وهناك ما لا يقل عن 3 آلاف امرأة أصبحن أرامل ويحاولن إعالة أسرهن، في ظل عدم توفر أماكن آمنة للناجيات بالقدر الكافي.
هذا الواقع برمته، يلقي بظلال سلبية خطيرة على الصحة النفسية للنساء في غزة، وفق ما قاله المختص النفسي محمد مهنا، والذي أكد أن النساء في غزة يواجهن تحديات كبيرة وربما تعد الأعقد على مستوى العالم.
وقال منها: "صحيح إن الكثير من النساء يمتلكن عزيمة قوية لمواجهة تلك التحديات حتى تحت تهديد القتل، لكن هذه العزيمة لا تعني البتة أن النساء في غزة لا يتأثرن، فالواقع لم يعطيهن الفرصة للتعبير عن مشاعرهن السلبية وحالة الضغط التي تعاني منها، لذلك فإن النساء بحاجة إلى الكثير من التدخل النفسي في الوقت الراهن من أجل مساعدتهن على التخلص من الآثار النفسية للحرب".
(*) أسماء مستعارة
معاناة الأمهات في غزة في ظل الحرب