تستلقي الفلسطينية عائشة مطر (68 عاماً) على سرير داخل مستشفى شهداء الأقصى بالمحافظة الوسطى وسط قطاع غزة، بوجه مصفر وهزل شديد يصيب أطرافها. حيث أوهنها المرض الذي زادت الحرب من تأثيره على صحتها.
قبل ثلاث سنوات أصيبت السيدة عائشة وهي من سكان مخيم جباليا شمال القطاع، بمرضى الفشل الكلوي والأورام، غير أن تلقيها جلسات الغسيل الكلوي بانتظام ساعد في تحسن حالتها الصحية، إلى أن جاءت الحرب وخرجت المستشفى عن الخدمة، واضطرت للنزوح عن مسكنها، وازدادت أوضاعها الصحية سوءاً.
تقول: "كنت أخضع للعلاج في مركز نور الكعبي شمال غزة بشكل منتظم، وكانت عدد ساعات الجلسة الواحدة بواقع 4 ساعات يوما بعد آخر، لكن بسبب الحرب على غزة وتدمير المركز، اضطررت إلى النزوح في الثاني والعشرين من نوفمبر الماضي إلى وسط القطاع، وتعمدت البحث وإيجاد مأوى عبارة عن كرفان قريب من مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح حتى أتمكن من حضور جلسات العلاج".
مستشفى شهداء الأقصى هو المستشفى الوحيد الذي يخدم مرضى المحافظة الوسطى، وقد تردت خدماته الصحية بعد نزوح الآلاف من سكان شمال غزة إلى "الوسطى"، تقول السيدة مطر إن ظروف المشفى صعبة وقاسية، فلا يوجد متسع لجميع مرضى الفشل الكلوي، والازدحام يصل حد الاختناق بسبب أعداد المرضى المكدسين هناك".
على ضوء ذلك تقلص عدد الجلسات إلى جلستين أسبوعياً مدة كل منها ساعتان تقريباً، وقالت "إن هذا التوقيت غير كاف ويسبب لي تسمما في الدم، لأن عدد الجلسات وتوقيتها لا يساعد على تنظيف الجسم من السموم، لكن إدارة المستشفى بررت تقليص عدد الأيام وساعات الجلسات بسبب الأعداد الكبيرة من المرضى".
وأضافت "لا تتوقف معاناتي على هذا فحسب، بل أن النظام الغذائي لا يتناسب مع حالتي الصحية حيث اعتمد في غذائي اليومي على المعلبات التي نتلقاها من المؤسسات، ولا يوجد لحوم ولا فواكه ولا خضروات ولا مياه معقمة، وهذا أثر على حالتي الصحية فجميع الأغذية يضاف إليها مواد حافظة، وهي لا تتوافق مع حالتي الصحية كما يوصي الطبيب، كما أني وبسب سوء التغذية أصبحت أعاني فقر الدم بنسبة بلغت (5.5).
هذه المعاناة الإنسانية والظروف الصحية الصعبة والمعقدة، تعانيها المئات من حالات مرضى الفشل الكلوي في قطاع غزة، والذين كانوا يعانون من الأصل نتيجة تردي الواقع الصحي وسوء الرعاية، غير أن الآن المسألة باتت أكثر تعقيداً.
تثبت التقارير الصحية والحقوقية، أن مرضى الفشل الكلوي في قطاع غزة يعانون ظروفا معقدة وخطيرة، نتيجة تدمير 5 مراكز متخصصة في تقديم خدمات الغسيل الكلوي من أصل 7 مراكز، بالتزامن مع النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، واستمرار العراقيل ومهاجمة المناطق السكنية والتهجير القسري للسكان وإجبار المرضى على مغادرة المستشفيات بغض النظر عن حالتهم الصحية، منذ الحرب التي اندلعت في السابع من تشرين الأول الماضي.
الواقع بلغة الأرقام:
وبلغ عدد مرضى الفشل الكلوي قبل الحرب، وفقاً لوزارة الصحة بغزة (1100 مريض) جميعهم كانوا يتلقون العلاج وجلسات الغسيل الكلوي، في سبع مراكز طبية، موزعة على النحو التالي: مجمع الشفاء الطبي، ومركز نورة الكعبي في شمال غزة، ومستشفى الرنتيسي للأطفال، ومستشفى القدس، ومستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، ومجمع ناصر الطبي بخان يونس، ومستشفى أبو يوسف النجار بمدينة رفح.
وبالعودة إلى قصة السيدة عائشة، فأن معاناتها مع مرض الغسيل الكلوي قد تضاعفت هي ونحو 440 مريضاً على وجه الخصوص ممن يترددون على مستشفى شهداء الأقصى.
التقارير الطبية تفيد بأن 144 مريضا بالفشل الكلوي كانوا يخضعون لجلسات العلاج في هذا المشفى الوحيد بالمحافظة الوسطى قبل اندلاع الحرب، ويحصلون على الخدمة من خلال 21 جهازاً مخصصاً للغسيل الكلوي، من بينها جهازان معزولان في غرف ومخصصين لمرضى الكبد الوبائي، وبمعدل ثلاث جلسات منظمة أسبوعياً، وبما مجموعه 12 ساعة وذلك، حتى يتمكن المرضى من التخلص من السوائل وطرد السموم من الجسم.
مع اندلاع الحرب ارتفع عدد مرضى الفشل الكلوي الذين يتلقون الخدمة في مشفى الأقصى، إلى 440 مريضاً، أي بنسبة ثلاثة أضعاف، مع إضافة ثلاثة أجهزة غسيل ليصبح إجمالي عدد الأجهزة (24 جهازاً) واحد منهم فقط مخصص للأطفال، فيما أن أربعة أخرى تعاني ضعفاً نتيجة عمرها الزمني.
وأمام محدودية الخدمة الصحية والعجز عن توفير بدائل، فإن إدارة المشفى قررت تقليص عدد جلسات الغسيل الكلوي وساعاتها، وبدلاً من أن يخضع للعلاج 12 ساعة يومياً تراجعت إلى 4 ساعات، وهذا الأمر تسبب في تراكم السموم وزيادة السوائل ومضاعفة الخطورة على حياة المرضى، فضلاً عن تكرار أعطال الأجهزة التي تعمل فوق طاقتها لساعات طويلة.
الانعكاسات الخطيرة على صحة المرضى:
الحال ذاته، يعانيه مستشفى أبو يوسف النجار برفح، لكن قبل أن نضيء على الأزمة القائمة هناك، أثرنا نقل معاناة المريضة إكرام طه (57 عاماً) والتي تعاني من مرض الفشل الكلوي منذ نحو 8 سنوات، وقد ترك المرضى علامات واضحة على خارطة جسدها النحيف.
كانت المريضة طه تخضع في السابق من ثلاث إلى أربع جلسات غسيل كلى أسبوعياً، حسبما أفادت، ولكن ومع اندلاع الحرب، اضطرت للنزوح عن مسكنها الواقع في حي الصفطاوي شمال غزة، بتاريخ العشرين من نوفمبر الماضي، وقد اتجهت رفقة أسرتها إلى المحافظة الوسطى.
بعد وصول السيدة طه إلى هناك، سارع أبناؤها لنقلها إلى المشفى، لأجل استئناف جلسات غسيل الكلى، لكنها فوجئت بوجود أعداد كبيرة من مرضى الفشل الكلوي داخل القسم إضافة إلى أن مساحته ضيقة وأعداد أجهزة الغسيل محدودة، وهو ما عقد من عملية خضوعها لعلاج منتظم وفاعل.
عدا عن ذلك، واجهت السيدة "طه" نقصا حادا في العلاجات بما فيها حقن (الهيبارين)، إلى جانب أضطرها للانتظار لساعات طويلة وأيام من أجل الحصول على جلسة الغسيل، وهذا تسبب في انخفاض معدل الدم وارتفاع معدل المياه داخل الجسم، وبالتالي ضاعف معدل السموم، وقد تدهورت حالتها الصحية إلى أن أصبحت تعاني الآن من ضعف في عمل عضلة القلب وتحولت إلى مريضة قلب.
توضح السيدة أن معاناتها استمرت على هذا النحو لأكثر من شهرين، وقد اضطرت للنزوح مرة أخرى إلى محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة نتيجة عمليات القصف المتواصلة على التجمعات السكنية في المحافظة الوسطى، وعلى ضوء ذلك توجهت إلى مستشفى أبو يوسف النجار وهو المستشفى الوحيد المتاح أمام المرضى لتلقي خدمات الرعاية الصحية بما فيها غسيل الكلى.
هناك كانت الكارثة، كما تقول، حيث أن الأعداد الكبيرة للمرضى الذين يترددون على المستشفى وعلى قسم الكلية الصناعية تحديدا، جعلها تنتظر أحيانا لمدة 48 ساعة حتى يحين موعد جلسة الغسيل الكلوي، ولمرة واحدة أسبوعياً بواقع ثلاث ساعات.
نتيجة لذلك تضاعفت معاناة السيدة طه، إذ أصبحت تعاني من ظهور تقرحات في جسدها، والتهابات تطفو على الجلد، وتشعر بهزال دائم في جسدها، فضلا عن الضعف الشديد في الحركة، نتيجة عدم انتظام جلسات غسيل الكلى، ناهيك عن عدم توفر سيارة إسعاف تنقلها إلى المستشفى.
خمسة أضعاف أعداد المرضى في رفح
وسط حالة من اليأس داخل قسم الكلى بمستشفى أبو يوسف النجار، وبين الأسرة المتراصة على هيئة مقاعد، يوجد قائمة طويلة من المرضى بلغ عددهم الإجمالي 600 مريض، فيما كان في عدد مرضى الفشل الكلوي في محافظة رفح 115 مريضاً، ويخضعون لجلسات العلاج باستخدام 18 جهازا.
الواقع الآن قد تغير على نحو خطير جداً، حيث تضخم عدد المرضى بأكثر من خمسة أضعاف، بقدرة سريرية محدودة جداً، ووسط شح كبير في العلاج. نتيجة نزوح الآلاف من سكان شمال ووسط القطاع إلى جنوبه، فيما لم تتمكن إدارة المشفى من إضافة أجهزة لخدمة هذا العدد الكبير من المرضى، سوى جهاز واحد ليصبح العدد 19 جهازاً، خمسة منها تتعرض لأعطال مستمرة.
وبذلك تقلصت عدد الجلسات بشكل حاد جداً لتصبح إلى أقل من جلستين أسبوعياً بواقع ساعتين إلى ثلاثة مدة الجلسة الواحدة، ويعمل المشفى الآن على مدار الساعة ودون إجازات ولا فواصل بين جلسات المرضى، لاسيما أن خمسة أجهزة تتعرض لأعطال مستمرة.
المستبصر بحالة النظام الصحي في قطاع غزة منذ الحرب، يجد أن هناك استهدافاً مباشراً قد تسبب به جيش الاحتلال خلال هجومه العسكري على القطاع، حيث دمر جميع المراكز المتخصصة في تقديم خدمة الغسيل الكلوي باستثناء القسمين الموجودين في مستشفى شهداء الأقصى بالمحافظة الوسطى، ومستشفى أبو يوسف النجار بمحافظة رفح أقصى جنوب القطاع، الأمر الذي يهدد حياة المرضى ويحرمهم من حقهم في العالج.
وتسببت الهجمات العسكرية التي شهتها إسرائيل على مدار نحو مئتي يوم في أنحاء متفرقة من القطاع، في استشهاد (476) من الكوادر الطبية وأصحاب الاختصاص الطبي، واستهدفت (155) مؤسسة صحية ودمرتها بشكل كلي وجزئي، وأخرجت (32) مستشفى و(53) مركزا صحياً عن الخدمة، وعرقلت وصول الوقود إلى المستشفيات المتبقية، ما أفقد المستشفيات قدرتها العلاجية والاستيعابية، وباتت الطواقم الطبية تعالج الجرحى والمرضى بإمكانيات متواضعة، طبقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.
نتيجة لهذه التداعيات الإنسانية الخطيرة، فإن معطيات المنظمات الأممية والدولية تشير إلى أنه يوجد في رفح ما يزيد عن مليون نازح، وهذا بطبيعة الحال يعقد من عملية وصول المرضى عموما ومرضى الغسيل الكلوي للخدمات الصحية اللازمة، لاسيما في ظل العدد المهول للمصابين والذي يتجاوز 70 ألفاً، منذ بدء الحرب.
تزايد المخاطر على نحو مخيف
وقال مصدر في وزارة الصحة بغزة رفض الكشف عن اسمه، إن التهجير القسري الذي تعرض له سكان شمال قطاع غزة، صاحبه تدميرا كاملاً لكافة المشافي والمراكز والمرافق الصحية بما فيها أقسام الكلية الصناعية، وما تحتويه من أجهزة، بالأمر الذي أحدث خللاً كبيرا في توزيع المرضى.
وأشار المصدر، إلى أن ظروف الحرب خلقت ضغط كبير على القسمين الوحيدين، في مستشفيي الأقصى والنجار، بحيث لم يلبيان الحاجة الحقيقة في حدودها الدنيا للمرضى، مؤكداً أن 18 مريضاً توفي نتيجة عدم قدرته على تلقي العلاج وجلسات الغسيل الكلوي في المراكز والمستشفيات المخصصة، فيما استشهد عشرة منهم نتيجة الهجمات العسكرية.
وأمام انهيار المنظومة الصحية، إلى جانب العجز الحاصل في الأدوية والمستلزمات والمستهلكات الطبية وبخاصة الأدوية المثبطة للمناعة، فإن المصدر يؤكد تزايد المخاطر المحدقة بحياة 500 مريض كانوا قد تمكنوا من زراعة كلى داخل وخارج فلسطين، وجميعهم معرضون لطرد أجسامهم للكلية المزروعة أو فشل عملها، ويخشى أن يعودوا لغسيل الكلى حال استمرار هذا العجز في الأدوية.
ولفت إلى أن الفحوصات والتحاليل التي أجريت على مرضى الفشل الكلوي، كشفت عن أن السموم في أجساد المرضى تفوق المستوى الطبيعي بسبب سوء التغذية، الناجم عن اعتماد المرضى في الأطعمة المعلبة والتي تحتوي على مواد حافظة وأمالح، في ظل انعدام الأغذية الغنية بالبروتينات والأطعمة الصحية التي تغذي المناعة.
يتقاطع ما قاله المصدر، مع ما أكدته ورقة حقائق أصدرها مركز الميزان لحقوق الإنسان، حيث تشير إلى أن الاحتلال تعمد خلال الحرب على غزة والتي تدخل شهرها السابع، قتل المرضى عموماً بما فيهم مرضى الفشل الكلوي، وهو ما تسبب فعليا في وفاة العديد منهم نتيجة عدم قدرتهم على تلقي العالج، وسوء التغذية الناجم عن سياسة التجويع، فضلاً عن المخاطر الحقيقية المحدقة بحياة المئات منهم.
وبموجب القانون الدولي الإنساني، فإن المستشفيات والمدارس والمدنيين وعمال الإغاثة والطرق الآمنة لتقديم المساعدة الطارئة، من بين الأشخاص والأماكن التي يحميها القانون الدولي الإنساني.
ويؤكد المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، الدكتور أحمد المنظري، أن "الرعاية الصحية ليست هدفا، ولا ينبغي أن تكون هدفا"، داعياً جميع الأطراف المتنازعة إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين، بما في ذلك "المتخصصون في مجال الرعاية الصحية الموجودون في الميدان وسيارات الإسعاف".
إزاء ذلك، طالب "الميزان"، ومعه مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية الأخرى، منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الدولية المعنية بالحق في الصحة ووزارة الصحة الفلسطينية، إلى المسارعة في إنشاء مركز لغسيل الكلى في المناطق الغربية من محافظات الجنوب، على أن تكون قريبة من مخيمات النازحين، وتزويد القطاع بأجهزة ومستلزمات ومستهلكات طبية بما يكفل استيعاب أعداد المرضى وتقديم خدمة الغسيل وفق الأصول بما يحمي حياة المرضى.
كما طالبت المؤسسات الحقوقية، المجتمع الدولي بالقيام بواجباته والتدخل العاجل لوقف سياسية استهداف المرافق الصحية وسياسة التجويع، وفرض وقف إطلاق النار في قطاع غزة وضمان انسحاب قوات الاحتلال، وإنهاء حصارها المفروض على القطاع انسجاما مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2728 الصادر بتاريخ 25 مارس/آذار والتدابير الاحترازية التي فرضتها محكمة العدل الدولية.