النازحون الشباب: أحلام مستحيلة نتيجة الصراع

قبل أن تتحول العودة إلى حلم

النازحون الشباب: أحلام مستحيلة نتيجة الصراع

إذا سألت شاباً فلسطينيًا نازحاً من شمال قطاع غزة ويقيم في محافظة رفح أقصى جنوب القطاع، سواء داخل خيمة أو مركز إيواء، عن أمنيته بعد مرور ستة أشهر على الحرب، سيجيب بدون تردد أن يعود إلى مسكنه شمالي وادي غزة.

أثير السؤال الآنف في جلسة نقاش دارت بين نازحين شباب في العشرينات والثلاثينات من العمر، يجتمعون فوق تلة رملية إلى الغرب من خيام النازحين المقامة على أطراف رفح الجنوبية الغربية.

كل واحد منهم عبر عن أمنيته بشكل مختلف وهي في مجملها حقوق مشروعة، جزء منها تركز على الهجرة خارج حدود غزة، وآخرون تحدثوا عن قدرتهم على إعادة بناء مستقبلهم من جديد رغم الدمار، وفريق ثالث غارق في التيه بعدما تسلل إليه اليأس نتيجة فقد الإحساس بالأمان.

ومع ذلك، انفض الجمع بالوصول إلى خلاصة مفادها أن إقامة خيمة فوق أنقاض المساكن المدمرة في شمال القطاع، هي أولى من البقاء في خيام النزوح دون أفق لوقف إطلاق النار، أو اتفاق سياسي يمكن أن يصنع مستقبلاً أفضل لسكان غزة.

القناعة الأكثر جزماً بين ثلاثتهم، أن العودة أولى من الهجرة في الوقت الراهن، "فالهجرة بدون هدف هي هروب من الواقع فقط" كما قال أحدهم.

خلاص فردي

وبعيداً عن الجمع المنفض، يختلي الشاب أمجد حسان (*) بنفسه وبأفكاره التي تراوده من حين لأخر. حسان شاب في الثالثة والعشرين من العمر، أنهى تعليمه الجامعي في تخصص إدارة الأعمال قبل عام تقريباً، ولم يفلح في الحصول على وظيفة أو فرص عمل مؤقتة. وقد جاءت الحرب وقضت على ما تبقى من أحلام في صناعة مستقبل أمن.

وسط موجبة احباط، قال الشاب إن السبيل الوحيد للشعور بالأمان الآن هو الخلاص الفردي، بمعنى أنه يفضل السفر على البقاء رفقة أسرته في غزة.

لا يملك الشاب من أمر تكاليفه المعيشية اليومية شيئاً، بما في ذلك ثمن السيجارة (20 شيكلاً)، وأمام عجزه عن دفع تكاليف السفر الباهظة والتي تتجاوز 5 آلاف دولار للمرور من غزة إلى القاهرة عبر معبر رفح البري، فإنه يفضل العودة إلى مسكنه في الشمال، حيث لا خيار أخر.

يخفض الشاب حسان الذي أكد أنه قارئ نهم للأخبار، من سقف توقعه بإحراز تقدم سياسي ملموس يقضي بوقف إطلاق نار قريب ويضمن وعودة النازحين، لذلك قال إن الأولى الآن (يخاطب المفاوضين) هو إعادتنا إلى بيوتنا المهدمة، على إبقائنا نعاني ويلات النزوح والتهديد المتكرر باقتراب بدء عملية عسكرية على رفح، حيث نقيم الآن.

"نحن هربنا تحت وطأة القصف ولجئنا للمناطق الآمنة في جنوب غزة كما يزعم الاحتلال، والآن يتهدد رفح بعملية عسكرية واسعة النطاق(..) نحن نشعر كأننا في خضم موجة عاتية تصحبنا نحو الموت، دون قدرة منا على التحكم في مسارها أو الاستسلام من أجل الوصول إلى الشاطئ بسلام" يقول حسان ذلك وهو يزم شفتيه ويشيح ببصره نحو الخيمة.

سالم عبد السلام (*) صديق الشاب حسان، ورفيق نزوح، كما يصفون العلاقة بينهم، يتبنى جزء من رؤية صديقه، لكنه يقول: "قد يبدو الأمر عبثياً أن نعود إلى شمال غزة ونرزح مجددا تحت ظلال الخيمة، إذا لم تضمن عودتنا إعادة إعمار مساكننا المهدمة، فلا جدوى من هذا الصراع".

وأضاف "أمنيتي الآن أن تتوقف الحرب، كي اشعر بالأمان قليلاً، بعد ذلك يمكنني التفكير بما في وسعي فعله (..) طالما أنت لا تملك أمنك والحفاظ على حياتك في ظل عشوائية القصف، فالتفكير في العودة إلى الشمال الذي يعاني أيضاً قصف يومياً، كأنه هروب من الموت إلى الموت".

ومع اقتراب دخول الحرب يومها الـ 195، تتعاظم التحديات أمام المفاوضات غير المباشرة، الرامية إلى التوصل لاتفاق هدنة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، والتي تديرها مصر، وقطر. لاسيما في ضوء ما يرشح عن انتكاسات عدم التوصل إلى صيغة توافقية بين الطرفين.

إزاء ذلك، تجد الشابة أماني عامر (*) تفكيرها منحصراً في الخلاص من خيمة اللجوء التي تقيم بداخلها رفقة عائلتها النازحة من بلدة بيت لاهيا شمال القطاع والتي يتجاوز عددها 8 أفراد، والبقاء وحيدة في غرفة من أربعة جدران ونافذة تتزين شرفتها بأغصان الأشجار، "إلا إذا كان هذا الحلم الآن ضرب من الخيال!".   

لا مناص من الوقوع في فخ الاكتئاب تقول أماني (19 عاماً)، وهي تشير بسبابتها إلى أكوام الملابس المكدسة، وأدوات الطهي والمعدات المتراصة داخل الخيمة المقامة على أطراف محافظة خانيونس الغربية، ممتعضة من الظرف الذي تعيشه.  

وأضافت الشابة التي كانت قد التحقت قبل اندلاع الحرب بشهر واحد على الأقل، بالجامعة تخصص علم النفس، "كل شيء هنا باعث على الاحباط، لا استقلالية ولا حياة تناسب أدميتنا في قضاء الحاجة أو غيرها، ولا حتى فرصة للحصول على مقومات حياة كريمة".

تتصالح هذه الشابة مع ذاتها، كونها تواجه تحدي من نوع آخر، حيث أنها تحاول بناء شخصيتها المستقلة عن عائلتها الأصولية، حتى وهي تقيم معهم في خيمة واحدة. وهذا من منظورها يعتبر تحدي لا يقل أهمية عن مواجهة تحديات الحرب، فالمجتمعات المحافظة والتي تطغى عليها الصبغة الذكورية، لا تقبل بأن تقول الفتاة كلمتها في السلم، فكيف بالحرب؟  السؤال لأماني.

وقالت: "ما عدت أطيق كل المصطلحات التي تتحدث عن الصراع من منظور أصولي، أنا على الأقل الآن أبحث عن السلام النفسي وسط هذا الخراب، وهذا بطبيعة الحال يستوجب العودة إلى مسكني في شمال غزة (..) كنت اعتقد دائما أن غرفتي هي مساحتي الشخصية، بينما أنا الآن أعيش مع جميع أفراد العائلة في خيمة لا تتجاوز 9 أمتار، فإذا انتهكت هذه المساحة، لن يعود هناك قيمة لشيء".

البدء من الصفر ليس عيباً

في المقابل، تتعامل مادلين عبد الرحمن (36 عاماً)- وهي أم لثلاثة أبناء أكبرهم في بداية المراهقة، تعيش وزوجها وحماتها في خيمة واحدة- مع الحياة كمشروع قابل للربح وللخسارة أيضاً، لكن الأهم من ذلك ألا يخسر الإنسان نفسه في غمرة الصراع.

هذا النضج في تعريف الحياة من منظور الشابة عبد الرحمن، كان ثمرة خوضها غمار تجارب ريادية سابقة بعضها نجح وبعضها أخفق، لكن في المجمل الحياة تجارب، كما تقول، وإن على الإنسان ألا يقبل بالهزيمة مهما كلفه ذلك من ثمن.

وقالت: "لا يعني ذلك البتة أني متصالحة مع هذا الواقع الذي أعيشه الآن داخل خيمة اللجوء هذه (..) هذا واقع لا يراعي أدميتنا ولا العصر الذي نعيش فيه، إنه يعيدنا عشرات السنين إلى الوراء".

يقطع حديث عبد الرحمن اتصال هاتفي، تعتذر بلطف "المتصلة أمي، لا يمكنني فصل الخط لأنه بالكاد تسعفنا الشبكة على التواصل مع أهلي القابعين في شمال غزة" تنسحب بضعة أمتار.

تعود بعد قليل تكفك دمعها، وتقول: "لقد اشتقت كثيرا لأمي، هي نازحة مثلي تماماً بعدما فقدت مسكنها، لكنها تقيم في مدرسة إيواء غرب مدينة غزة (..) صحيح أن سكان الشمال كانوا يعانون المجاعة لبعض الوقت، لكنهم ع الأقل ظلوا في أماكنهم، وهذه في الحقيقة نعمة نحسدهم عليها".

وبلغ عدد النازحين بمدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، أكثر من مليون شخص. ويخشى هؤلاء على مصيرهم مع ترقب هجوم إسرائيلي وشيك، فيما لا يوجد أي مفر لهم.

تضيف الشابة عبد الرحمن، بعد أن ثبتت أركان الكرسي المتهالك الذي تجلس فوقه: "فقدت مصدر رزقي حيث أنه كان لدي مشروع صناعة الكيك، ودمر بيتي، ولكن ذلك لا يعني نهاية العالم بالنسبة لي، أنا على استعداد أن أعود وأقيم خيمة على أنقاض بيتي وأن أعيد بناء حياتي من جديد، لأن الاستسلام ليس خياراً".

تظن عبد الرحمن أن الهجرة هو مبتغى خفي من وراء الحرب وضراوة القصف، لذا قالت "علينا ألا نعطيهم الفرصة (تقصد الاحتلال) لتحقيق ذلك، وأن نتشبث بحقنا في إعلان جدارتنا بالحياة ومواصلة السعي والتخطيط للمستقبل حتى لو من تحت الأنقاض، فالبدء من الصفر ليس عيباً".

 

(*) اسماء مستعارة.