لن نقدم جديداً حين نقول إن الغزيين يبذلون جهداً مضنياً في سبيل توفير الطعام تحت ظلال قذائف الحرب، لكن ثمة تحدي آخر يواجهونه يتعلق بتوفير القهوة أيضاً.
صحيح أن القهوة ليس مسألة حياة أو موت كتأمين الدقيق مثلاً في ظل الحرب المستعرة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، لكنها تعد إدماناً مشروعاً لدى قطاع واسع من سكان غزة الذين كانوا يستهلكون نحو 2500 طن من حبوب القهوة سنوياً، بواقع استهلاك يتراوح بين 6-7 أطنان يوماً، طبقاً لتقديرات وزارة الزراعة.
تعتبر القهوة من أبرز وأشهر المشروبات الساخنة لدى أهالي القطاع، حيث يستخدمونها بشكل يومي في أفراحهم وأتراحهم، ويصل استهلاك بعض الأسر يوميًا إلى 150 جراماً. لكن بالنسبة لأسرة المواطن عبد الحليم جودة (39 عاماً) فالأمر يتجاوز ذلك بكثير.
نزح جودة من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة إلى محافظة رفح أقصى جنوب القطاع، مصطحباً حقيبة ملابس وكيلو جرام من القهوة، وقال وهو يجلس أمام خيمة لجوء مقامة بمحاذاة شاطئ البحر، "ربما يعد ضرباً من الجنون أن تنزح رفقة أسرتك وأنت تحمل أوراقك الثبوتية في حقيبة، وفي الحقيبة الأخرى تحمل القهوة، لكن في الواقع هذا ما جرى، نحن لا نستغن عن القهوة".
وأضاف الرجل الذي كان يعمل مقاولاً في قطاع الإنشاءات "في الحقيقة كنا نستهلك أنا زوجتي 250 جراماً يومياً من القهوة، عدا عما كان يستهلكه والدي وأشقائي، غير أننا وبفعل الحرب والنزوح للشهر الخامس على التوالي وقلة ذات اليد، لم يعد بإمكاننا استهلاك هذه الكمية فتكلفتها أصبحت باهظة جدا".
يتجول جودة في أسواق محافظة رفح بحثاً عن بن طازج بأسعار معقولة، ويقول إنه يعود خال الوفاض؛ لأن الأسعار "جنونية"، وإنه كلما اشتم رائحة بن مشبعة بالهيل المطحون تفوح من إحدى الخيام، يشعر بالكثير من السوء؛ لأنه محروم من هذا المشروب، كعادة يومية جاءت عليها الحرب وسحقتها.
بنظرة إلى الوراء، نجد أن ثمن كيلو البن الواحد كان يتراوح سعره بين (40-60 شيكلاً)، غير أنه ومع اندلاع الحرب أصبح كيلو القهوة يتجاوز الـ(800 شيكل)، أي ما يزيد عن مئتي دولار، نتيجة حالة الاحتكار التي انتشرت كالنار في الهشيم بفعل منع الاحتلال إدخال الكثير من السلع كعقاب جماعي ضد السكان المدنيين.
شمال غزة ذاك الاسم الذي ذاع في الأخبار مؤخراً نتيجة حالة المجاعة التي تسبب بها الاحتلال هناك، بفعل حرمانه نحو 700 ألف نسمة، من أدنى مقومات الحياة بما فيها المواد الغذائية، وفرضه حصاراً مطبقاً، ترتفع أسعار القهوة على نحو أقل من الجنوب.
يرجع إبراهيم عثمان (28 عاماً) وهو تاجر بن، هذا التباين في الأسعار بين شمال القطاع وجنوبه، لأمرين اثنين: الأول أن سكان الشمال مازال لديهم مخزون من حبوب القهوة. والثاني، أن عدد سكان الجنوب ضعف سكان الشمال مرتين تقريباً، ما يعني أنه مهما كان حجم المخزون هناك، فقد نفذ حتماً مع دخول الحرب شهرها السابع.
يشير عثمان، إلا أنه وعلى الرغم من انعدام القدرة الشرائية بالنسبة للسكان نتيجة فقدان الآلاف من المواطنين لمصادر أرزاقهم، إلا أن الطلب على القهوة لم يتأثر، بل ربما يكون ازداد حتى مع ارتفاع الأسعار، مرجحاً أن يكون ذلك عائداً إلى ما تحتويه القهوة من الكافيين، والذي يعد بالنسبة للكثيرين أنه المكون التنشيطي للذاكرة أو التركيز، تاركاً بذلك أثره في الطريقة التي يفكر أو يشعر بها الناس، حيال عدم الحصول على القسط اليومي منه.
وقال: "إن بعض الناس يقولون إنهم إذا لم يحصلوا على قسطهم اليومي من هذا المشروب الساخن، فإن ذلك قد يتسبب لهم بالصداع لوقت طويل، ولا يزول الألم إلا باحتساء القهوة".
يتفق محمد العفيفي وهو شاب في العقد الثالث من العمر يملك مطحنة صغيرة مشغلة بالطاقة البديلة، مع ما قاله سابقه، في التأكيد على أن الناس لم تستغن عن القهوة حتى في أصعب أيام الحرب، وقال "في الوقت الذي شح فيه الدقيق، وجلب الناس أعلاف الحيوانات لطحنها، كان هناك زبائن يجلبون حبوب القهوة لأجل طحنها".
يتهكم العفيفي على إدمان السكان القهوة، قائلاً: "الحالة القائمة هي انعكاس للمثل الشعبي الذي يقول إن الرأس الذي لا كيف فيه يجب قطعه(..) لذا تشعر أن الناس هنا يتعاملون مع القهوة على أنها إدمان لا يمكن وقف تعاطيه مهما كانت الظروف".
وبطبيعة الحال، لا يمكن فهم وتفسير هذه الحالة، دون البحث عن الرابط المشترك بين القهوة والسياسية لفهم الوقائع على الأرض، فالخلفية العسكرية للحرب على القطاع هي سياسية بامتياز، تتعلق بدوافع الصراع والنتائج المرجوة منه، بالنسبة لكلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
وبالرجوع إلى القرن الـ15، الذي بدأت تظهر فيه المقاهي في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ومن هناك انتشرت في ربوع أوروبا حيث أصبحت تلك المقاهي مراكز للحديث في التجارة والسياسة، فضلا عن الأفكار الجديدة بشكل عام.
يُعتقد أن العديد من رموز التنويريين كانوا من عشاق القهوة؛ وكان الفيلسوف الفرنسي فولتير يتناول ما يزيد على 72 كوبا من القهوة يوميا، ويقال إن الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو اعتمد على القهوة في وضع موسوعته التي تقع في 28 جزءا – والتي تعدّ أساسا للتنويريين، بحسب الكاتب الأمريكي مايكل بولان.
هذا التأصيل التاريخي للارتباط الحقيقي بين علاقة المفكرين بالقهوة، تعطي دلالة على أن حالة التعافي الذاتي الذي يعتقد أن الفلسطينيين يجيدونه بعد كل جولة صراع، ربما يكون عائداً إلى القهوة، إلى جانب أمور أخرى كثيرة تتعلق بفكرة الانتماء إلى الأرض، وعدم وجود بدائل أخرى غير الشروع الفوري بالتخطيط لجملة أحلام جديدة؟، كما يقول الاختصاصي النفسي محمد مهنا.
وأشار منها إلى أن هناك اعتقاداً سائداً لدى جمهور عريض من الفلسطينيين بأن القهوة محفزة على التفكير، وإن التخلي عن شربها يتسبب بأذى للأشخاص، مرجحا أن يكون ذلك عائد إلى احتواء القهوة على نسبة من الكافيين، والذي يجدد نشاط الأفراد مؤقتاً.
إحدى الصور التي التقطت عام 1940 في أعقاب غارة خلال الهجوم الألماني على لندن، تظهر سيدة تجلس فوق الحطام بعدما خسرت كل ما تملكه، لكن خروجها حية من تحت كل ذلك الردم هو في حد ذاته انتصار لها.
وبالنسبة لسكان غزة الذين يعيشون حرب للمرة الخامسة خلال العقدين الأخيرين، فالصورة لا تثير الدهشة مطلقاً، على اعتبار أن الناس اعتادوا بعد كل حرب العودة إلى مساكنهم المدمرة، ويقيمون على أنقاضها حياة جديدة، حتى لو اضطروا لصناعة القهوة على مواقد الحطب كما يفعلون الآن بفعل نفاذ مخزون غاز الطهي.
هذه المقاربة، بين واقعين بفارق زمني أكثر من ثمانية عقود، تقود إلى نتيجة حتمية مفادها أن التفكير بالبداية الجديدة هي خصلة إنسانية من الطبيعي أن يشترك فيها الجميع أياً كان هويتهم أو ثقافتهم أو جنسياتهم، كما يقول الاختصاصي مهنا.
وأضاف "هذا الأمر لا يعني أن الفلسطينيين جبلوا من الخرسان، ولكن هي قدرة الفلسطيني على إعلان جدارته بالحياة وسط الركام وممارسة حياته بالحد الأدنى بما في ذلك اعتياده على شرب القهوة، وكأنه يقول إن علينا التفكير ببداية جديدة، لأن الهروب ليسَ خيارا".
ثمة صورة نمطية غير منصفة تقدم الفلسطينيين الذين يعيشون منذ 187 يوماً في خضم الحرب، على أنهم أرقام فقط. ربما لا يتحدثون البتّة، عن الحياة العادية للناس الذين كانوا يستفيقون صباحاً يرتشفون القهوة، ويقرؤون الكتب ويمارسون الحب.
ويتمتع سكان غزة بثقافة واسعة حول أنواع البن، إذ يقول تاجر البن "عثمان"، إن بإمكان الزبائن التفريق بين البن الكولومبي أو البرازيلي على سبيل المثال، وبعضهم يطلب نسباً معينة من الهيل الممزوج مع الحبيبات المطحونة ودرجة التحميص"، مشيرا إلى أن من أكثر أنواع البن المستهلكة هو البن الكولومبي.
ولعل هذا الأمر الذي ساعد على ظهور إحدى المبادرات خلال الحرب على غزة لربط مصدري البن في جنوب كولومبيا مع أصدقائهم الفلسطينيين الذين ينتمون إلى البن الكولومبي، عبر تقديم القهوة إلى غزة. وكتب على أغلفة المنتج الذي وصل خيام النزوح: "من أجل غزة، ومن جبال كولومبيا إلى شواطئ غزة، ندرك أن النضال من أجل العدالة طويل وشاق".
وتقول آمال خليل، وهي طالبة جامعية إن القهوة الكولومبية التي حصلت عليها، أطفأت القليل من احتياجهم للبن في ظل العجز عن توفيره بسبب غلاء أسعاره. وأضافت الفتاة التي نزحت من شمال غزة إلى "المواصي" غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، أن المواطنين هناك حرموا من الكثير من احتياجاتهم الأساسية بما في ذلك المأكل والمشرب والحق بالتمتع بالخصوصية.
ومن الناحية القانونية، فإنه يحظر تجويع المدنيين كوسيلة للحرب أو القتال. وطبقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإنه عندما يتعرض السكان للجوع نتيجة للحرمان من مصادر الطعام وإمداداته فإن هذا يشكل انتهاكا للقانون الإنساني.
ومما هو واضح، فان الحفاظ على احتساء القهوة هو شكل من أشكال التشبث بالحياة وممارسة تفاصيلها مهما كانت المتغيرات صعبة وقاسية والتحديات كبيرة والظروف قاهرة، كأن الفلسطينيين يقولون طالما نحن بخير هناك دائما فرصة جديدة.