عن أدلة التعرف على الجثث في غزة

عن أدلة التعرف على الجثث في غزة

لم يكن بمقدور الشاب الفلسطيني علي عبد الرحمن (25 عاماً) التعرف على جثة يشتبه أنها جثة أبيه، لولا عثوره على خاتم فضي يتوسطه حجر كريم بني اللون ظل ملتصقًا بالبنصر الأيسر.  واستمر الشك يساور عبد الرحمن وأشقاءه لعدة ساعات وهو ينتقل من المشرحة إلى حديقة مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، سعياً منهم لمطابقة تفاصيل الجثة المشوهة بفعل القصف الجوي، مع ملامح وجه الأب التي غيبت تماماً.

وبعد تردد شديد، دخل الشاب عبد الرحمن المشرحة مجدداً وتفحص أطراف الجثة، حتى عثر على الخاتم. وقد كان بمثابة القرينة الوحيدة التي تثبت أن هذه هي جثة أبيه. قال بعد أن عض على شفتيه: "هذا أبي انتهى الأمر". هنا فقط انفرط عقد الدمع من مقل العيون ودوى صوت نحيب أفراد الأسرة بعدما ألجموا حزنهم تحت وطأة الشك لبعض الوقت.

ولحسن حظ المواطن عبد الرحمن أنه تعرف على جثة أبيه. بينما عشرات الجثث في قطاع غزة تشوهت بفعل عمليات القصف الجوي وجرت مواراتهم الثرى في مقابر جماعية بعدما تعذر التعرف على هويتها. وتقدر وزارة الصحة في قطاع غزة عدد المفقودين بما يزيد عن سبعة ألاف شخص.

طبقاً للمسعف الفلسطيني عز الدين محمد، فإن الشك يساور الناس حول مصير أبنائهم طبقاً لحالة ونوع الاستهداف وشكل وملامح الجثة، فإذا جرى استهداف مسكن بعينه فمن السهل الاستدلال على جثث الأشخاص الذين كانوا بداخله من خلال أقربائهم من الدرجة الأولى، وكذلك يمكن التعرف على هوية الشخص الذي يعثر عليه داخل سيارة جرى استهدافها مثلاً، حتى لو كانت الجثة متفحمة، لأنه في الغالب السيارة تحمل لوحة أرقام ومن السهولة معرفة مالكها، كما يمكن العثور أحيانا على البطاقات الشخصية لمن كانوا بداخلها. 

أما أولئك الذين خلفتهم عمليات التوغل في مناطق مختلفة سواء أسفل البنايات المخلاة أو التي نزح سكانها، أو في الطرقات، فليس من السهل التعرف على هويتهم، وبخاصة إذا كانت الجثث قد بدأت تتحلل وتشوهت ملامحها، كما يقول المسعف محمد.   

ولفت إلى أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي تدخل شهرها السابع، عقدت من عملية التعرف على الجثث نتيجة هذا الكم الكبير من الضحايا، وكذلك نتيجة نوعية الأسلحة الفتاكة المستخدمة والتي تعقد من مسألة التعرف على هوية الأشخاص.   

وفي الغالب يسود اعتقاد لدى سكان القطاع أن الأشخاص الذين فقدت أثارهم خلال عمليات القصف، لم يكتب لهم النجاة من الموت ما لم يكن الجيش قد أكد اعتقالهم، غير أن جزءا كبيرا من السكان لم يسلموا بهذا الاعتقاد، واستنفدوا جميع خيارات البحث للتعرف على مصير أبنائهم، أو على الأقل الإحاطة بظروف ارتقائهم.

المتتبع لسلة العمليات العسكرية البرية التي نفذتها القوات الإسرائيلية في مناطق مختلفة من غزة، يجد أنها خلفت العشرات من الجثث المتحللة ملقاة في الشوارع وداخل البنايات التي جرى اقتحامها. 

آخر تلك العمليات كانت لمجمع الشفاء الطبي وسط مدينة غزة، والتي استمرت لعشرة أيام، انتشل على أثرها 300 جثة، وفق تقديرات أمنية محلية.  

الحاجة نعيمة قريقع التي تجاوزت الستين من عمرها، كانت واحدة من الضحايا الذين فقدت أثارهم بفعل اقتحام المشفى أواخر مارس الماضي، وجميع المناشدات التي أطلقها نجلها الوحيد الصحفي محمد، عبر مواقع التواصل الاجتماعي لم تفلح في إنقاذ حياتها، لا سيما أنها كانت تعاني من مرضى ضغط الدم والقلب.

سارع محمد فور إعلان جيش الاحتلال انسحابه من المنطقة، للبحث عن أمه، ولم يتمكن من معرفة مصيرها إلا بعد أن استدل على جثتها من الفستان الذي كانت ترتديه. وثق محمد لحظة عثوره على الجثمان المشوه وكتب منشورا عبر فيسبوك " هذا "فستانك يمّا، الوحيد الذي لم تأكله النار، الوحيد، الذي قاوم رائحة البارود، وأبقى رائحتك، الزكيّة، فيه، فستانك يمّا، حزين".

بهذه النهاية الإنسانية المؤلمة، أغلق قريقع ملف البحث عن أمه. لكن ثمة ملف آخر ظلّ معلقاً لأشخاص وأناس مفقودين، لم يعط أحد إجابات شافية حول مصيرهم ولم يتم العثور على أدلة دامغة تثبت ارتقاءهم، بمقابل جثث أخرى مجهولة الهوية مكثت لأيام داخل ثلاجات الموتى، لم يتعرف عليها أحد، ثم جرى دفنها.

يزداد الأمر تعقيداً مع خروج المشافي عن الخدمة وتوقف خدمات القطاع الصحي، خصوصا في شمال قطاع غزة، حيث تعطلت عمليات إجلاء ونقل الجثث إلى المشرحة سواء تلك التي كان يرعاها المسعفون أو التي يسارع إليها السكان عبر عربات الكارو.

بدافع إنساني بحت، ودون الوعي بخطورة الأمر وانعكاساته النفسية على ذوي الضحايا، يجتهد المواطنون أحياناً في مواراة الجثث التي خلفتها الآلات العسكرية ملقاة في الطرقات، انطلاقاً من قاعدة "إكرام الميت دفنه"، دون الاستدلال على هويتها، على اعتبار أنه لم يعد هناك ثلاجات لحفظ الموتى، وبالتالي يصبح الدفن واجباً أخلاقياً على الأقل، من منظورهم.

ومن الناحية العملية، ليس من السهل التعرف على الجثمان وبخاصة أن الكثير من الجثث قد تغيرت ملامحها إما بفعل التنكيل بها أو نتيجة التشوه الناجم عن الإصابة أو أنها قد تحللت.  يشكل هذا الأمر تحديا كبيرا بالنسبة للأسر التي فقدت أبناءها خلال الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.

أمام هذا الواقع، تبقى الأدلة والقرائن الخاصة التي يمتلكها أقرباء من الدرجة الأولى كالزوجة والأبناء والأشقاء والأم والأب، هي الإثبات الوحيد لقطع الشك باليقين حول مصير الجثث مجهولة الهوية.  

يحاول الصحفي سامي أبو سالم، رسم مشهدًا للحالة التي يعانيها أهالي الشهداء في التعرف على أبنائهم تحديدا في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، قائلاً: "إنهم يبحثون عن علامة فارقة في البدن أو الملابس، سيما وأنهم يصلون إلى المشافي أشلاء أو مشوهين".

وأضاف أبو سالم "يمسح الوالد الغبار عن وجه شهيد، يتفحص الأسنان والأصابع ويفتش عن جرح قديم في الرأس، وامرأة تفحص خاتم أو دبلة في يد جثمان تشك أنه لزوجها، حاولت فحص اليد الأخرى فلم تجدها".

وأشار إلى أن أحد الأشخاص استدل على أخيه من جرح غائر في ساقه جراء حادث طرق عندما كانا يلهوان بدراجة هوائية في سنين غابرة. فيما أن أم شهيد مسكت يد جثة شاب ودوت بصرخة هزت المشرحة، بعد الاستدلال عليه من وحمة التصقت بكتفه الأيسر.

وأوضح أن مراهقًا آخر تيقن بسرعة أن الجثة المجهولة لأخيه، "أخوي، عرفته من الجرابين، لبس جرابيني قبل ما يطلع"، قال بصوت خافت.

هذه الحالة الإنسانية الصعبة والمعقدة، تتناقض تماماً مع ما نصت عليه مواثيق حقوق الإنسان. ووضع القانون الإنساني الدولي مجموعة قواعد حدد خلالها من هم الأشخاص المحميون بموجبه، وجاء في مقدمتها، المستشفيات والمدارس والمدنيون وعمال الإغاثة والطرق الآمنة لتقديم المساعدة الطارئة.

ووفقاً لبروتوكول اتفاقيات جنيف الذي تم اعتماده عام 1977 فإن المبادئ الأساسية الخاصة بحقوق الإنسان تركز على احترام كرامة الإنسان وحياته والمعاملة الإنسانية. ويشمل ذلك حظر عمليات الإعدام بإجراءات موجزة (أي دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة) والتعذيب.

بناء على ذلك لا يجوز للأطراف المتنازعة استهداف المدنيين، طبقا لما قاله إريك مونجيلارد من المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، مشيرا إلى ضرورة أن تتأكد الأطراف من أن العمليات والأسلحة التي تختار استخدامها ستقلل أو تتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، كما يجب عليها توفير تحذير كاف للسكان المدنيين بشأن هجوم وشيك.

وقال مونجيلارد إن "الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تعتبر جرائم حرب". وعلى هذا النحو، فإن جميع الدول ملزمة بتجريم تلك السلوكيات والتحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها.