يتكئ الفلسطيني محمد بشير على سريرٍ خشبي بالٍ، وبجواره يتربع مذياع قديم يتجاوز عمره الثلاثين عاماً، لا زال محافظاً على جودته.
يتابع بشير (70 عاماً) أخبار الحرب على قطاع غزة لحظة بلحظة عبر الراديو المشغل بالبطاريات، ويملك مخزوناً معرفياً واسعاً رغم أنه لم يكمل تعليمه الثانوي، لكنه يقول "من يعيش في هذا البلد يصبح له قدرة على فهم السياسة قسراً (..) أنا على يقين تام أنه رغم ما يشاع عن مباحثات تهدئة لكن هذا كله استهلاك للوقت فقط وذر للرماد في العيون"، في إشارة إلى حكمه المسبق على مباحثات التهدئة بأنها ستؤول إلى فشل.
يقلب الرجل الذي ترك الزمان أثراً غائراً على وجهه وأصابه بالكثير من التجاعيد، مفتاح المذياع منتقلاً من محطة إذاعية إلى أخرى، وبينما هو كذلك تناهى إلى مسمعه أغنية المطرب الراحل عبد الحليم حافظ "قارئة الفنجان"، تبسم بوقار تبعته لحظة صمت ثم قال: "لا بأس بالقليل من الموسيقى، رغم أني لا أفضل السماع إليها في وقت عصيب كهذا، لكنه عبد الحليم ورائعته قارئة الفنجان".
يرتشف الرجل الشاي على ضوء كاشف صغير يستخدمه في الانتقال من سريره إلى أركان أخرى داخل المنزل، الذي أصابته شظايا القصف، وقتلت ابنه ذا الخامسة والعشرين، ودفعت بأربعة أخريين من أبنائه للنزوح عنه خشية من أن تطالهم المتفجرات التي تجاوز وزنها 65 ألف طن، حسب تقديرات مكتب الإعلام الحكومي بغزة.
يُعد فعل الاستماع إلى الموسيقى في أوقات الحرب، فعلاً مذموماً في مجتمع كقطاع غزة المعروف بمغالاته في العادات والتقليد. يدرك بشير ذلك ويقول، أنا أفعل مثلهم أيضاً (يقصد الناس) لا يعجبني فعل كهذا، لكن من يستمع إلى كلمات قارئة الفنجان يشعر وكأنها تجسد بعض معاناتنا فهي تمزج بين الألم والحنين معاً.
لم يكن هذا الجد يعلم قط أن هذه الأغنية سترافقه في أوقات اليأس والألم التي يمر بها بسبب الحرب التي تجاوزت شهرها السادس. ويشير إلى أنه لا يتوانى عن الاستماع إليها خصوصاً في هذا الوقت الذي وصفه بالعصيب، عبر "المذياع" وهو الوسيلة الوحيدة التي لم تتعطل بفعل الحرب، أسوة بقطاع الاتصالات والإنترنت.
قال وهو يدندن لحن الأغنية الطربية التي غناها عبد الحليم في ربيع العام 1976: "سترجع يوما يا ولدي، مهزوما مكسور الوجدان، وستعرف بعد رحيل العمر، بأنك كنت تطارد خيط دخان (..) أخشى ما أخشاه أن نعود بعد كل هذا الصراع دون جدوى، دون أفق لإحراز اتفاق سلام".
يُتابع بحثًا عن أي بصيص من الأمل في وقت غابت فيه بوادر وقف إطلاق النار أو إحراز تهدئة رغم المساعي التي تقودها كل من القاهرة والدوحة وواشنطن، "أبنائي قد غادروا البيت قبل أربعة أشهر بعد استشهاد أخيهم الأصغر، خشية على حياتهم وحياة أطفالهم، وهم الآن يكابدون عناء النزوح في محافظة رفح جنوب القطاع، استمع الأخبار لحظة بلحظة لعل اسمع أنباء عن قرب عودتهم".
بشير الذي فقد زوجته في جائحة كورونا، يشير إلى أنه يجتاحه الكثير من الحنين، وقد صار البيت موحشاً بالنسبة له، حيث رفض النزوح عن مسكنه رغم ضراوة القصف التي شهدتها منطقة سكنه، قائلا: "رفضت تماماً أن أعيش معاناة أبي الذي هاجر على أمل العودة ثم مات ودفن هنا ولم يعد".
كلما مرت على مسامع الرجل أغنية "قارئة الفنجان"، انتابته مشاعر من الحزن والأسى، حيث تجلب له ذكريات جميلة ممزوجة بحنين لأبنائه وأحفاده، وقال: "كأن عبد الحليم كان يقصدنا، حين قال من يدنو من سور حديقتها من حاول فك ضفائرها، يا ولدي مفقود.. مفقود، ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان وستسأل عنها موج البحر وستسأل فيروز الشطآن".
تتلاحم كلمات الأغنية مع مشاعر الستيني بشير، حيث ترتبط بين الحالة الوجدانية العاطفية والارتباط العميق بالوطن الذي أصابته لعنة الحرب التي شنتها إسرائيل منذ 180 يوماً على غزة.
ينغمس في موجات الصوت التي أخذته في رحلة عبر الزمان والمكان، وجعلته يتأمل حاله برويةٍ ثم قال: "عندما تفقد عزيزاً سواء كان زوجةً أو أبنًا أو أخًا أو صديقًا، حتماً ستستحضره مع كل مشهد ومع كل لحن حزين وفي كلمات كل أغنية كتبت عن الحنين (..) لكن قارئة الفنجان لها خصوصية، حيث إن لوقع كلماتها غصة في القلب، صحيح أن عبد الحليم كان يقصد حبيبته، لكننا أيضاً أناس نحب مثل باقي شعوب الأرض.. وعلى سيرة الأرض فالأرض بالنسبة لنا حبيبة، والزوجة حبيبة والابنة حبيبة والابن حبيب، وكلنا فقدنا أحباء على قلوبنا في هذه الحرب المستعرة".
انعطفنا قليلاً عن قارئة الفنجان، وسألنا بشير عن تأثير الحرب على كبار السن على وجه الخصوص، فأجاب وقد فجّر جملة من الأسئلة: "هي أزمة إنسانية بكل معنى الكلمة، هل يعي أحد في هذا العالم معنى ألا تجد مكانًا تحتمي تحته من لهيب القصف والشظايا؟، وألا تجد ما تأكله أو ماء طاهرا كي تتوضأ وتروي عطشك؟ وألا تجد أشخاص يؤازرونك وتآزرهم؟، تلك أعظم مأساة بالنسبة لشخص عاش سبعون عاماً عزيز النفس".
وتركت الحروب والنزاعات المسلحة آثاراً عميقةً على السكان المدنيين لا سيما الفئات الضعيفة مثل كبار السن. في قطاع غزة المقام على مساحة 365 كلم2 والذي عانى من حروب وصراعات عديدة خلال العقدين الأخيرين.
ويتعارض ما يتعرض له السكان المدنيون بما فيهم كبار السن في قطاع غزة من انتهاكات جسيمة، مع ما نص عليه القانون الدولي الإنساني، بوجوب حماية المدنيين في ظل الصراع.
وبلغ عدد كبار السن في فلسطين حوالي 313 ألف فرد، بما نسبته نحو 6% من إجمالي السكان في منتصف العام 2023 (حوالي 206 آلاف فرد يشكلون نحو 6% من إجمالي السكان في الضفة الغربية، وحوالي 107 آلاف فرد 5% من إجمالي السكان في قطاع غزة)، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
يملك بشير رغم ما طال مسكنه من دمار، جهاز كاسيت قديم مصحوب بآلة بيانو، لم يصبه أذى. يقول: "أنظر إلى هذا الجهاز إنه يحمل معه ذكريات أكثر من ثلاثين عاماً، لقد كنت مولعاً بسماع الموسيقى، لكن الحرب أخمدت كل الأصوات وأبقت صوت الموت فقط".
وتفرض بيئة قطاع غزة "المحافظة" قيودا متنوعة على ممارسة الموسيقى، منها قيود دينية إذ يعتبرها البعض تتعارض مع الاعتقادات الدينية، فيما كانت تُفرّض بعض التشديدات الحكومية على أنواع من الموسيقى المسموح بها أو المحتوى الذي تتضمنه الأغاني في الحفلات العامة.
بينما تنتشر الأغاني والأناشيد الوطنية كـ "العتابا والميجانا" التي تُرافق "رقصة الدبكة"، وتعد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الموسيقية الشعبية وتحتل مكانًا مهمًا من التراث والفلكلور الموسيقي الشعبي.
وبالإضافة إلى تلك القيود على الموسيقى، هناك تحديات اجتماعية فالبعض يراها أمرًا غير مقبول على النساء بوجه خاص، وما تزال هناك تحفظات على ممارسة الفتيات للغناء أو حتى سماعهن للموسيقى، وهو جزء من العقلية الذكورية التي لا تزال تلقي بظلالها على المجتمع.
يؤرخ الموسيقار الفلسطيني حسن الأستاذ، لظهور الموسيقى الشعبية في قطاع غزة، إبان حقبة السبعينيات، وقد كانت تسمع وقتها في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، كما كان هناك بعض الفرق الموسيقية التي تقدم الموسيقى الكلاسيكية والروحية في بعض الأحيان.
وأشار الفنان الأستاذ في حديث سابق مع "آخر قصة" إلى أن آلة العود كانت أكثر الآلات شيوعًا في الموسيقى الشعبية والتقليدية، وقد بدأ بتعلم العزف على هذه الآلة وهو لم يتجاوز الأربعة عشر ربيعًا في حينها.
وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات التي تواجهها الموسيقى، لا سيما في ظل الحروب والنزاعات التي تعيشها الأراضي الفلسطينية، فإن الأغاني الطربية تظل جسرًا يربط بين كبار السن وذكرياتهم وأحبائهم، وتمنحهم لحظات قليلة من الراحة والسلام في قلوبهم المنكوبة.
في قصة الستين بشير، نجد قصة كل مواطن في غزة لديه الكثير من الشغف والارتباط بالحياة يمارس الحب ويسمع الموسيقى، ويرفض أن يفقد الأمل بعودة السلام والاستقرار إلى وطنه. بين ضوضاء القصف وأنغام الأغاني، يستمر "بشير" في حراسة ذكرياته وحنينه إلى أبنائه، ويبقى على أمل بأن يعود يومًا ليعيش في سلام وسعادة غامرة بينهم.