في قطاع غزة، تتساقط المآسي كما تتساقط حمم القصف فوق رؤوس المواطنيين الفلسطينيين، لتلقِ بتداعيات سلبية على وتيرة حياة السكان المدنيين وعلى صحتهم النفسية أيضاً.
كلما اشتدت وتيرة عمليات القصف الجوي على ضوء الحرب الإسرائيلية ضد القطاع منذ السابع من أكتوبر الماضي، يتلاشى الدخان مخلفاً وراءه آثار الدمار والخراب المتجسّدة في أنقاض المنازل وأرواح الناس.
محمد أبو كميل شاب فلسطيني من مدينة غزة وجد نفسه فجأة محاط بالدمار الواسع الذي طال شقته السكنية الواقعة وسط المدينة، وحولها إلى كومة ركام، في غمضة عين.
كانت شقة أبو كميل الذي يعمل محاضر جامعي، تجسّد حلم متجدد للحياة، حيث استثمر كلّ دولار من مدخراته في بنائها بحب ودقة، كما لو أنه يشكل قلعة صلبة تحميه من عواصف الحياة. ومع كلّ لوحة فنية يضعها على الجدار وكل قطعة أثاث ينتقيها بعناية، كان يبني عالم خاص به يتنفّس فيه الأمل ويشعر بالأمان.
ولكن فجأة، جاءت ضربات القذائف لتهدم جدران الأمل وتبثّ الرعب في قلب أبو كميل وأسرته. بين لحظة وأخرى، تحولت الشقة الجميلة إلى كومة من الحطام والخراب، وانقضت الأحلام كالبلورات المتناثرة على أرضية المنزل.
محاصر بين جدران الحزن وسقف اليأس، وجد أبو كميل نفسه مشلولًا في وسط هذه العاصفة العاتية من الأحداث. فكيف لا؟ وهو يرى كلّ ما بناه وأحلامه تتهاوى أمام عينيه، ويشعر بقسوة الواقع الذي يفتقد فيه إلى أبسط مقومات الحياة.
كان أبو كميل قد استثمر كافة مدخراته في بناء شقته السكنية، حيث اهتم بأدق التفاصيل في الأثاث والديكورات وقطع الأنتيكا، ما جعله يصنف نفسه على أنه شخص "بيتوتي". لهذا، فقدان المنزل بالنسبة له كان أمر كارثي بتداعيات خطيرة على صحته النفسية.
تحدث أبو كميل عن درجة التأثير العميقة التي يمكن أن يتأثر بها الأشخاص البيتوتيين عند فقدانهم لمأواهم ومأمنهم، قائلاً إنه يشعر بالكثير من الحزن والأذى النفسي على ضوء الحرمان من المسكن والاستقرار، وقد أصبح يعيش الآن رفقة عائلته".
والشخص البيتوتي هو شخص يكره الخروج بلا هدف، يحب بيته وأسرته، حنونًا جداً، يقرأ كثيرا، لا يحب الثرثرة إلا في المفيد النافع، يكره الجلوس على المقهى، يكره رائحة الدخان، قريبًا من أولاده ومشاكلهم، قريبًا من زوجته، ويشاركها في كل شيء ، رجل يكره النفاق الاجتماعي لأقصى حد.
وقد اشتدت الآثار النفسية لفقدانه للشقة، خاصة في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها سكان قطاع غزة بسبب الحرب المتواصلة لأكثر من 180 يوماً وراح ضحيتها أكثر من 32 ألف شخص، دون وجود أي بوادر لوقف إطلاق النار، أو وعود جدية لإعادة الإعمار.
يأزر عادةً الفلسطينيين بعضهم بعد كل جولة حرب أو تصعيد عسكري، يتكبد فيها البعض خسائر مادية، وتأتي المجاملة في هيئة عبارات مختلفة منها: "في المال ولا في العيال، المال معوض، بكرا بترجع أحسن من أول، ما تشيل هم أشي المهم صحتك"، رغم أي من تلك العبارات يدرك قائلها ومستقبلها أنها لا أساس أحيانا لها من الصحة.
وتعد هذه المجاملة في غير موضعها بالنسبة للمكلومين، نتيجة التكلفة الباهظة لإنشاء المسكن في قطاع غزة، في ضوء وجود تحديين أساسيين: انعدام مصادر الدخل، ومحدوديته. وبخاصة أن نسبة الفقر قد تضاعفت في القطاع الذي يعاني حصاراً منذ أكثر من 18 عاماً، لأكثر من 70%.
وتتراوح تكلفة إنشاء الشقة السكنية في القطاع بين (20-90 ألف دولار)، وهي قيمة ليس بمقدور عامل بأجرٍ متدنٍ قد لا يتجاوز الـ300 دولار شهريا أن يوفرها. واعتمد غالبية السكان على المساكن متعدد الطبقات التي بناها آباءهم، بعد رحلة كد وشقاء استمرت عدة عقود في قطاعات مختلفة.
جدير بالذكر أنّ قطاع غزة يعاني عجزاً في الوحدات السكنية قبل الحرب على القطاع، إذ إن أكثر من 90 ألف وحدة سكنية تضرّرت خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتعدّدة على قطاع غزة حتى عام 2022 كانت بحاجة إلى إعمار، وفق إفادة مركز حقوقي فلسطيني. فيما أن جرى تدمير ما يزيد عن 300 ألف وحدة سكنية إلى الآن في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
في الأثناء قال الاختصاصي النفسي محمد مهنا، إن الدراسات العلمية أوضحت أن فقدان المأوى يمكن أن يؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية، ويزيد من مخاطر الإصابة بالاكتئاب والقلق والإجهاد النفسي.
لذا، أكد مهنا على أن الأشخاص الذين يواجهون مثل هذه الصدمات، هم بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي قوي، بالإضافة إلى استخدام استراتيجيات تحسين الصحة النفسية مثل ممارسة التأمل والرياضة والتواصل مع الأصدقاء والعائلة.
وفي ظل الظروف الصعبة التي يعيشها سكان قطاع غزة، قال الاختصاصي النفسي إنه يتعين على المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية تقديم الدعم والمساعدة للسكان المتضررين، وتوفير الخدمات الضرورية لتخفيف معاناتهم وتعزيز صحتهم النفسية.
بعد فقدانه لمنزله، يواصل أبو كميل الشاب محاولاته للتكيف مع الوضع الجديد، مستعينًا بالأمل والإيمان بأن يأتي يوم جديد يحمل معه الأمان والاستقرار له ولأسرته، في قطاع غزة.