فوجئ المواطن الفلسطيني محمود أبو جلال (56 عاماً) عندما قرر شراء أسطوانة غاز الطهي من إحدى الأسواق في منطقة سكنه بمخيم جباليا شمال قطاع غزة، وقد وجد اسطوانته المنزلية واسمه مكتوب أعلاها، معروضة للبيع.
تلك لم تكن مزحة سمجة كما قال المواطن أبو جلال، هذه حقيقة وقد اضطررت لدفع قيمة خمسين شيكلاً (14 دولاراً) من أجل استعادتها، وهذا في واقع الأمر يرمز إلى سلوك غير قانوني دفع بعض اللصوص لسرقة محتويات المساكن المهجورة وبيعها بدعوى الفقر، حسبما قال.
وإذا كان أبو جلال قد ظفر بأسطوانته حتى بمقابل مادي، لكن المواطن محمود سليم كان أسوأـ حالاً، إذ فوجئ بأنّ محتويات مسكنه الذي غادره تحت وطأة القصف، ونزح باتجاه مركز إيواء يقع إلى الجنوب من مدينة غزة، قد سرقت بالكامل بما في ذلك الأغطية والفراش.
وقال سليم في العقد الرابع من العمر، عندما سمعنا بأن منطقتنا باتت مخلاة من الآليات العسكرية ذهبت وجيراني لتفقد مساكننا التي خلفناها قبل نحو ثلاثة أشهر تحت تهديد القصف والأحزمة النارية، وعندما وصلنا الحي الذي كان قد أصابه تدمير إلى حد بعيد، تسللت الفرحة إلى قلبي حين شاهدت مسكني مازال قائماً، رغم أنه قد أصابه الكثير من الأضرار الجزئية، ولكني صعقت حين عاينته من الداخل وقد جرى سرقة محتوياته بالكامل.
وشكّلت أعمال السطو والسرقة حرب أخرى بالنسبة للمواطنين المكلومين الذين اضطروا للنزوح عن مساكنهم، وهي في مجملها أعمال مخالفة للقانون، حسب ما ينص عليه قانون العقوبات الفلسطيني رقم 74 لسنة 1936 في (المادة 270) كل من سرق شيئا قابلا للسرقة يعتبر أنه ارتكب جرم السرقة، ويعاقب بالحبس مدة سنة واحدة إلا في المواضع التي ينص فيها القانون على عقوبة أخرى بالنسبة للظروف التي وقعت فيها السرقة أو لنوع الشيء المسروق.
وفي ظل انفراط العقد الاجتماعي، كأحد تداعيات الحرب التي فاقمت حالتي الفقر والجوع بين السكان، لم يعد للقانون محل، حيث شاعت جريمة السرقة والسطو باستخدام السلاح الأبيض، وفي بعض الحالات باستخدام السلاح الناري.
ونظراً لتدمير المقار الأمنية وانهيار منظومة العرف العشائري التي كان يستند إليها السكان إلى جانب القانون الأساسي الفلسطيني عبر الدواوين العشائرية التي أرسو الفلسطينيين الأوائل قواعدها ما قبل النكبة الفلسطينية عام 1948، فلم يعد بمقدور السكان إيداع شكاوى بحق المخالفين للقانون أو محاكمتهم عرفياً، وهو أمر ساعد على تنامي ما يمكن وصفه بأخذ الحق باليد، وهذا أيضا يعد أمراً خارج سياق القانون.
وتعرض المواطن محمد عبيد من سكان حي "الفالوجا" شمال قطاع غزة، إلى اعتداء باستخدام آلة حادة على يد مجموعة من الأشخاص مجهولي الهوية، بينما كان يحمل كيساً من الدقيق، وأخذوه عنوةً دون قدرة منه على مواجهتهم.
وقال عبيد في العقد الثاني من العمر: "بينما كنت عائداً من منطقة دوار الكويت على أطراف حي الزيتون جنوب مدينة غزة، حيث النقطة الأمنية المخصصة لعبور الشاحنات التي تنقل مساعدات لسكان شمال القطاع، وبعد تزاحم بين حشد كبير من السكان ظفرت بكيس الدقيق، واتجهت شمالاً أحمل الكيس على كتفي من أجل إطعام أشقائي ووالدتي.
وعلى بعد عشرات الأمتار واجه عبيد مجموعة من الأشخاص يحملون آلات حادة هاجموه وأصابه أحدهم بالسكين في يده اليسرى، ثم سرقوا كيس الدقيق ولاذوا بالفرار، فيما انشغل هو في البحث عن ضمادة كي يوقف نزيف جرحه الغائر، حسب وصفه.
وأشار المواطن إلى أنه عندما توجه إلى عناصر الشرطة -الذين ينتشرون بزي مدني حفاظاً على حياتهم بين الأحياء- لتقديم شكوى، اكتفوا بأخذ إفادته، ولم يتمكن حتى من الحصول على تقرير طبي يفيد بتوثيق الاعتداء، على ضوء خروج المشافي عن الخدمة.
الأمر لم يتوقف عند حدود السرقة والسطو، وإنما تجاوز ذلك عبر عمليات التخريب العمد، وهو ما حصل مع الحاج عمر أحمد (68 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، والذي ذهب لتفقد محطة الوقود خاصته المقامة بالقرب من مفترق الجامعات وسط مدينة غزة، وقد أصيبت بأضرار نتيجة توغل آليات الاحتلال العسكرية في تلك المنطقة في اليوم السابع والأربعين للحرب، لكنه ذهل نتيجة قيام أشخاص بسرقة صهاريج مركبات نقل الوقود من السولار والبنزين، فضلا عن سرقة البطاريات المشغلة للمركبات وإشاعة الخراب في أركان المحطة.
وعبر أحمد الذي سيطرت على ملامحه علامات الغضب، عن أسفه نتيجة وجود أفعال وصفها بالـ "منفلتة لا يمكن استيعابها" ترافقت مع الحرب، وقال: "إشاعة الخراب أمر لا تفسير له وهو معيب وغريب في الوقت نفسه، أليس كافيا ما ارتكبه الاحتلال من عمليات تخريب متعمد لكل مقومات الاقتصاد الفلسطيني، لنجد اعتداء آخر من اللصوص تمثل في تخريب الكثير من محتويات المحطة، فضلا عن تعطيل المولد الكهربائي المشغل الأساسي للمحطة وسرقة بعض مكوناته، عبر مجموعة من الأشخاص الذين لم يستطع حارس المحطة مواجهتهم".
وبطبيعة الحال، سجل الاعتداء ضد مجهول، حيث لم يتمكن المواطن أحمد الاستدلال على هوية الفاعلين، لاسيما أن الأشخاص الذين عاثوا الخراب داخل المحطة حطموا كاميرات المراقبة، ومصادرة وحدات التخزين الإلكترونية أيضاً.
من غير الواضح إن كان تداول فتوى شرعية – منقوصة غير مستند إلى مصدرها- بين السكان، تجيز سرقة الطعام بدافع مواجهة الجوع، هي التي فتحت شهية اللصوص على اقتحام المساكن والبقالات ومتاجر السلع الأساسية وكذلك المدارس والمراكز الطبية ومصادرة محتواها، لكن في جميع الأحوال، فإن السطو والتخريب هما فعلان غير جائزين من الناحية الشرعية، حسبما تفيد فتوى منصة إسلام ويب.
وطبقاً إلى فتوى المنصة، فمن اضطر إلى السرقة بسبب الجوع فلا إثم عليه، ولا حدّ. لكن ليس كل جوع يبيح السرقة، والاعتداء على أموال الناس. واستندت الفتوى إلى قول الإمام ابن قدامة في المغني: فصل: قال أحمد: لا قطع في المجاعة، يعني أن المحتاج إذا سرق ما يأكله فلا قطع عليه؛ لأنه كالمضطر... وهذا محمول على من لا يجد ما يشتريه، أو لا يجد ما يشتري به، فإن له شبهة في أخذ ما يأكله...فأما الواجد لما يأكله، أو الواجد لما يشتريه، وما يشتري به، فعليه القطع، وإن كان بالثمن الغالي".
ومن غير الممكن حصر عمليات السرقة التي وقعت خلال الحرب أو توقع قيمة خسائرها، لكنه يتجاوز حدود المعقول، وفق تقديرات مصدر في جهاز الشرطة في قطاع غزة. وبقول مختلط بين الجد والهزل قال المصدر: "للأسف أصبح السكان يصطلحون على أحد الأسواق غرب مدينة غزة بسوق الحرامية، وهذه إشارة واضحة على أن معظم محتويات السوق هي بضائع مسروقة بدءا من المواد الغذائية وصولاً للأجهزة الكهربائية".
وأشار المصدر إلى أنه لم يجر تحرير شكاوى المواطنين في الوقت الحاضر في ظل ملاحقة الطيران لرجال الأمن واستهدافهم، متوقعاً فتح الباب أمام إيداع الشكاوى بعد إعلان وقف الحرب.
ومن المتوقع أن تتكشف حجم الجريمة مع سماح جيش الاحتلال للنازحين من شمال القطاع بالعودة إليه، إذ إن هناك أشخاصا اشتكوا من فقدان مقتنياتهم خلال النزوح عن مساكنهم. وقالت ريما أبو النور (39 عاماً) من سكان بلدة بيت لاهيا والتي نزحت عن بيتها رفقة زوجها وأبنائها الستة إلى جنوب القطاع في الشهر الأول للحرب ولم تزل، إن شقيقتها التي ذهبت لتفقد البيت بعد انسحاب الجيش من البلدة، أبلغتها عن فقدان محتوياته من مواد غذائية وأسطوانات الغاز والأجهزة الكهربائية.
وعبرت السيدة أبو النور عن استيائها الشديد من هذا الفعل، متسائلةً "ألا يكفي ما فعله بنا الاحتلال؟ ليأتي بعض من أبناء جلدتنا ويقومون بأفعال شائنة كهذه!، من الذي سيتكفل بتعويض كل هذه الأضرار والأذى النفسي؟".
حالات السرقة الأنفة وغيرها العشرات التي قيدت ضد مجهول، دفعتنا بالقيام بجولة في أسواق مختلفة أقيمت بفعل الحرب وسط الأحياء السكنية في محافظتي غزة والشمال لتفقد محتوياتها، فوجدناها منقسمة بين سلع غذائية وأخرى تجارية جديدة ومستخدمة، والأدهى أن جميعها عرضت للزبائن عبر طاولات المدارس والتي سُرقت هي الأخرى. نستعرضها على سبيل المثال لا الحصر في الجدول التالي:
حال الأسواق كان مثيرا للغرابة والدهشة في آن واحد، إذ إنه من غير المتوقع أن تصبح الأدوات الطبية والتعليمية بوجه خاص سلعاً للبيع. حالٌ أقل ما يمكن أن يصطلح عليه المثل الشعبي "اختلط الحابل بالنابل"، كأنما في ظل شيوع الفوضى يصبح كل شيء مباح بيعه.
بموازاة ذلك، قام رجال الأمن الذين انتشروا في الأسواق بزي مدنيين يحملون الهراوات، بمحاربة حالات الاحتكار وارتفاع الأسعار التي شهدتها السلع الأساسية كالدقيق والأرز والبقوليات، غير أنه لم يسجل مصادرة الأجهزة الطبية والأدوات التعليمية المسروقة مثلا، أسوة بالسلع التي شهدت احتكاراً.
في المقابل، قام رجال مجهولو الهوية يرتدون لباساً وأقنعة سوداء اللون يحملون أسلحة وهراوات، بسحل أفراد يشتبه بأنهم لصوص، في الشوارع الرئيسية وداخل الأسواق، وقاموا بضربهم بعد تعريتهم وربط أحذيتهم في أعناقهم، ونعتهم بـ"الحرامية" أمام المارة الذين أيد بعضهم ذلك الفعل من أجل لجم عمليات السطو والسرقة، وآخرين استنكروه نتيجة التحقير والدونية التي استخدمت مع المشتبه بهم.
صحيح أن فعل السرقة هو سلوك فردي رعته النزعة الإجرامية لدى أفراد مخالفين للقانون، لكنه من وجهة نظر المحامي بلال البكري قد ساعد في إشاعة الفوضى بين السكان، وبخاصة مع غياب السلطة التنفيذية بسبب ضراوة الحرب القائمة.
وقال المحامي البكري ليس هناك مجتمعًا خاليًا من الجريمة، لكن أخطر ما في الأمر هو أن يصبح المجتمع قائمًا على أخذ الحقوق باليد خارج سياق القانون، في إشارة إلى استخدام القوة المفرطة وفرض العضلات من قبل البعض بعيداً عن القانون استغلالاً لحالة الفوضى الشائعة نتيجة الحرب.
واعتبر أن هذا الواقع ربما يكون جزء من أهداف الحرب التي رغب الاحتلال بتحقيقها، عبر منع إدخال المساعدات إلى محافظتي غزة والشمال وحرمان الناس من مقومات الحياة الأساسية كالطحين وغاز الطهي وحتى البقوليات وغيرها من سلع أساسية، من أجل إشاعة الجوع والفوضى، مشدداً على ضرورة أن تأخذ العائلات على عاتقها لجم أفرادها الخارجين عن القانون تجنباً لإشاعة شريعة الغاب، إلى حين عودة السلطة التنفيذية لممارسة عملها بالشكل القانوني.
وإلى حين تحقق هذا الأمر، فإن السكان المدنيين سيظلون يعانون من حالة الفوضى واتساع دائرة الجريمة، والتي تشكل في مجملها حربًا أخرى بالنسبة لهم لا تقل ضراوة عما تسببت به الحرب الإسرائيلية من خسائر بشرية واقتصادية وقبل كل ذلك ضرر نفسي بليغ.