ترجعُ السيدة الفلسطينية سماح دياب (27 عاماً) انعدام قدرة طفلتها ذو الثمانية أعوام على التعلم، لأمرين اثنين، أولًا للحرب، وثانيًا انعدام التأسيس في المراحل الأولى، وفي الحالتين فهي تخشى كثيراً على مستقبل طفلتها.
تشير السيدة دياب التي هربت رفقة طفليها تحت وطأة القصف من مسكنها الواقع في الصفطاوي شمال مدينة غزة، باتجاه بيت أقاربها الواقع إلى حي الصبرة جنوب المدينة، إلى أن طفلتها عانت في بداية الأمر من انعدام فرص التأسيس العلمي السليم نتيجة انتشار جائحة كورونا، وقد جاءت الحرب لتحرمها فرصة تحسين مستواها العلمي. "وكأن هناك مؤامرة على مستقبل هؤلاء الأطفال"، قالت ذلك بانفعال شديد.
شهرٌ واحدٌ على الأقل مضى على بدء العام الدراسي الجديد، حتى اندلعت الحرب على قطاع غزة في السابع من اكتوبر الماضي، ومنذ ذلك الوقت لم يتلقَ 600 ألف طالب مدرسي تعليمهم، منهم حوالي 60 ألفًا من طلبة المرحلة الثانوية، إضافة إلى 87 ألف طالب جامعة وكلية تقريبًا.
وقالت السيدة دياب، ألا يكفي أن جائحة كورونا قد أثرت على أطفالنا بشكل كبير على المستوى العلمي نتيجة اعتماد التعليم الإلكتروني وسيلة بديلة عن التعليم الوجاهي حفاظاً على حياتهم، لتأتي الحرب وتسحق كل رجاء في تحسين مستواهم العلمي وتطور قدرتهم على الفهم والاستيعاب خصوصا مع زخامة المنهاج!
وأوضحت أن أكثر من خمسة أشهر مرت ولم تستطع استثمار هذا الوقت، في تحسين مستوى طفلتها العلمي التي لديها ضعف في القراءة. ومع معاناة الأسرة من ظروف نفسية قاهرة نتيجة فقدان المأوى ومكابدة عناء النزوح والحرمان من أدنى مقومات الحياة، ازداد الوضع سوءًا لدى الطفلة.
وقالت الأم: "للأسف كلما حاولت استثمار بعض الوقت الذي قد لا يشهد انفجارات أو عمليات قصف في المحيط، في تعليم طفلتي، أجد حاجزًا صدا يحول بينها وبين القدرة على الاستيعاب والفهم".
وفي الوقت الذي لا تجد فيه السيدة دياب، تفسيرا لحالة أبنتها، أوجدت الاخصائية النفسية إيناس الخطيب ارتباطاً وثيقاً بين الحرب وفقدان التركيز لدي عدد كبير من الأطفال.
تقول الخطيب إن الحرب ألقت بظلال سلبية على الأطفال، خصوصا أنهم يعانون من الخوف والقلق المستمر والتي قالت إنها غالباً ما تؤدي إلى فقدان التركيز وانعدام القدرة على الفهم والإدراك بالنسبة للصغار.
وأكدت أن تداعيات الحرب النفسية كبيرة جداً وخطرة في الوقت نفسه على الأطفال، وبالتالي أصبح الأطفال وقبل كل شيء بحاجة إلى الشعور بالأمان، ومن ثم التفريغ والتعبير عن مشاعرهم، وصولاً إلى مرحلة القدرة على الاستعداد لتلقي التعليم.
ووجهت نصيحة إلى أولياء الأمور، بألا يمارسوا أي شكل من أشكال الضغط على الأطفال في سياق دفعهم نحو مواصلة التعليم لأنهم يعانون ظروفاً نفسية قاهرة نتيجة الخوف من القتل أو الإصابة أو التهجير، لذا؛ فمن الضرورة بمكان تهيئة الظروف قبل محاولة إعادة انخراطهم في البيئة التعليمية حتى لو كان ذلك داخل البيت.
وليس من الواضح أن كان لدى العاملين في قطاع التعليم قدرة على استئناف عملهم في ظل تعقيدات الظروف النفسية التي فرضتها الحرب على مختلف الفئات المجتمعية، بما في ذلك المعلمون والمعلمات.
واستشهد أكثر من 130 من المعلمين والإداريين في المدارس بقطاع غزة، فيما بلغ عدد الجرحى منهم أكثر من 400 جريح وجريحة، فيما استشهد ما يزيد عن أربعة آلاف طالب وطالبة، بحسب صادق خضور المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
يقول المعلم هاني صيام (44 عاماً)، المعلمون/ات هم جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع الذي يعاني ضغطا نفسيا نتيجة الحرب، وبالتالي هم أيضاً بحاجة إلى الاحساس بالأمان والسيطرة واستعادة الحيوية التي كانوا عليها حتى يتمكنوا من استئناف عملهم في هذه البيئة الخطرة، لاسيما مع تدمير الكم الأكبر من المدارس سواء الحكومية أو تلك التابعة إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
أما المعلمة محاسن أحمد (34 عاماً) فلا يزال طيف طلبتها في المرحلة الابتدائية يلاحقها حتى وهي تهدهد أطفالها في خيمة نزوح مقامة على أطراف محافظة رفح الغربية أقصى جنوب قطاع غزة.
وقالت المعلمة أحمد، إنها فقدت الأمل بالعودة للعمل كمعلمة للصف الثالث الابتدائي، في ظل هذا الحجم من الخراب والتدمير الذي طال المدارس.
وأضافت وهي تحاول اخماد جوع أطفالها بالقليل من البقوليات: "غالبية المبادرات التي تهدف إلى استئناف التعليم لن تجدي نفعاً، الأطفال الآن بحاجة ماسة إلى تدخل نفسي من أجل التخفيف من حدة التأثيرات السلبية للحرب عليهم، عدا عن أننا كمعلمين لسنا مهيئين لاستئناف أعمالنا قبل البحث عن مأوى آمن نستريح فيه من عناء النزوح".
ومنذ بدء الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، استشهد أكثر من 14 ألف طفل، فيما أن 17 ألف طفل أصبحوا يعيشون دون ولاديهم، وفقاً لبيان صادر عن الإعلام الحكومي بغزة في اليوم 170 للحرب.
وأدت الحرب المستمرة على القطاع إلى تدمير 100 مدرسة وجامعة بشكل كلي، فيما أن أكثر من 300 مدرسة وجامعة دمرت بشكل جزئي، طبقاً لإفادة المكتب الإعلامي الحكومي، وهو أمر يعقد من عملية استئناف التعليم في القطاع وبخاصة مع دخول الحرب شهرها السادس.
من جانبه، قال مدير العلاقات العامة في المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، محمود الفرا، إن العام الدراسي الحالي قد توقف، رغم عدم صدور بيانٍ رسمي عن الجهات المختصة، إلا أن قراءة الواقع وحجم الضرر الذي لحق بالقطاع يشيران إلى هذه النتيجة، وهذه تعدّ ضربة عنيفة توجّه إلى تعليم مستنزف بالأساس.
ومما هو واضح، فإن الحرب على قطاع غزة قد أصابت التعليم الجامعي أيضاً في مقتل، إذ أنها لم تستثن جامعة ولا كلية إلا وقد استهدفتها سواء كان بشكل جزئي أو كلي. تضاف هذا الاضطرار إلى رصيد الجامعات الفلسطينية من الاستهداف المتكرر خلال العقد الأخير.
وطالت الحروب السابقة على القطاع، مباني جامعتي الأزهر والإسلامية ملحقة أضراراً بالغة بكليات كالهندسة والطب بما في ذلك العيادات والمختبرات. وخلال العدوان الرابع الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة عام 2021 استهدفت ما لا يقل عن 54 منشأة تعليمية وروضة أطفال. وقتل 66 طفلًا وأصاب مئات منهم بجروح.
فيما يوثّق المرصد الأورومتوسطي، استشهاد 94 أستاذًا جامعيًا خلال الحرب الحالية، توزعوا ما بين 17 شخصية يحملون درجة البروفيسور، و59 يحملون درجة الدكتوراه، و18 يحملون درجة الماجستير.
هذا الحجم من الخسائر في الكوادر التعليمية، قاد الفرا للقول: "إن هذه الحرب لم يسبق لها مثيل في تاريخ غزة من ناحية القوة ودرجة التأثير على قطاع التعليم، مشيراً إلى أن قطاع التعليم تأثر بالقطاعات الأخرى، إذ لا يوجد كهرباء ولا ماء ولا قطاعًا صحيًا ولا مسكنًا آمنًا لكل هؤلاء الطلبة، كما أن حجم الدمار الذي حلّ بالبنية التحتية غير معهود".
ودون شك، فإن هذا الدمار الذي حل بالبنى التحتية بما فيها المدارس، إلى جانب حجم الخسائر البشرية التي طالت سكان القطاع، تجعل من استئناف عملية التعليم في اليوم التالي لوقف الحرب، أمر شبه مستحيل.
منذ اليوم الأول للحرب فرّ السكان إلى المدارس بوصفها مراكز إيواء يمكن الاحتماء بها من القصف العنيف الذي استهدف الأحياء السكنية، وقد قاد هذا الفعل يوماً بعد يوم وفي ظل مساعي السكان للبحث عن بدائل لمواصلة العيش إلى إشعال النار في أثاث المدارس من أجل استخدامه في الطهي.
يؤشر هذا الواقع، إلى أنه حتى المدارس التي نجت من القصف ويمكن استثمارها لاحقاً في التعليم، قد أُفرغت من أثاثها، ناهيك عن أن السكان الذي اتخذوها مأوى بعدما فقدوا مساكنهم لا يمكنهم مغادرتها ما لم يجر إعادة إعمار.
صحيح أن أثاث المدارس يمكن توفير بدائل له بعد انتهاء الحرب من خلال المساعدات، لكن تعويض الطلاب والعاملين في مجال التعليم، الذين فقدوا حياتهم في هذه الحرب، أمر مستحيل.
يجزم صادق خضور المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، أن الخسائر التي تعرّض لها الطلبة، إضافة إلى خسارتهم منازلهم وأفرادًا من عائلاتهم، تسببت لهم صدمات نفسية عنيفة يصعب تجاهلها عند الحديث عن عودتهم مستقبلًا للتعليم.
وأشار خضور في تصريحات صحفية، إلى أن واحدة من المسائل التي ستواجه الطلبة بعد انتهاء الحرب هي أن أعدادًا هائلة منهم أصبحت لديهم إعاقات جسدية، وكانت اليونيسيف أفادت أن ألف طفل في غزة فقدوا إحدى ساقيهم أو كليهما منذ بداية الهجمات الإسرائيلية حتى اللحظة، ما سيشكل عائقًا كبيرًا عند عودتهم للتعليم.
وأكد أن أي خطّة لعودة التعليم تتطلب مرحلة استكشاف لحجم الأضرار الحقيقية في ظل صعوبة الوصول لبعض المناطق ووجود من هم تحت الركام وعدم انتهاء الحرب، لذلك فإنه يرى أن الأولوية القصوى لوقف إطلاق النار، ويقول إن الوزارة تتباحث مع عدد من شركائها بهدف إسناد الموجودين في مراكز الإيواء من الطلبة أو ذويهم لأن أولويتهم مرتبطة بالإغاثة أكثر من التعليم.
مسؤولة الإعلام في اليونيسيف ميرا ناصر، من جهتها أوضحت أن مشكلة التعليم في غزة هي مشكلة قديمة متجددة، حيث إن نقص الفصول الدراسية كان يمثل مشكلة كبيرة أصلا قبل الحرب، وكانت معظم المدارس تعمل بنظام الفترتين يوميا، واحدة في الصباح، وأخرى بعد الظهر، ما يعني أن الأضرار التي تلحق بمبنى تعليمي واحد، قد يؤثر على قدرة مدرستين على العمل.
تقول ناصر إن هنالك خطّة تتكون من إجراءات استجابة أوّلية، تنظمها اليونيسف وشركاؤها، تسعى عبرها للبحث عن أماكن آمنة في القطاع يمكنهم من خلالها ضمان استمرارية التعليم، بإنشاء أماكن علمية مؤقتة كالخيام، أو أجزاء من المدارس المستخدمة كمراكز إيواء. أمّا الجزء التالي من الخطة فيقوم على إعادة بناء المنشآت التعليمية وإعادة تأهيل وترميم ما يمكن تأهيله، لكن، رغم ذلك، تقول ناصر إن التحدي الأكبر الذي سيواجهون هو أنه وحتى قبل الحرب فإن عدد المدارس لم يكن كافيًا.
التعليم غزة