لم يتبق أمام المسن الفلسطيني محمد مسلم (63 عاماً) خياراً أخر غير بيع اسطوانة غاز الطهي، من أجل شراء القليل من الطحين وسد جوعه هو وزوجته التي تصغره بثلاثة أعوام.
وفقد مسلم مسكنه في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، على أثر الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر الماضي، حاله حال نحو 360 ألف وحدة سكنية دمرت جزئيا وكلياً. حاول الرجل التنقيب عن مقتنياته تحت الركام وبالكاد استطاع العثور على اسطوانة غاز الطهي وقليل من الأغطية وبعضاً من ملابسه. وحمل مسلم امتعته رفقة زوجته واعتليا عربة كارو واتجها إلى مدينة غزة حيث مراكز الإيواء، وقبل أن يصلا قبلتهما قاما ببيع الاسطوانة بقيمة 400 شيكل (110 دولار)، لقاء الحصول على بضعة كيلوجرامات من الطحين.
وقال المسن مسلم الذي كان يعتمد على المعونة النقدية التي تقدمها وزارة التنمية الاجتماعية للأسر المعوزة كل ثلاثة أشهر، إنه خرج من مسكنه خال الوفاض لا يملك مالاً، وإنه اضطر لبيع اسطوانة الغاز رغم حاجته إليها من أجل شراء الدقيق والإنفاق على زوجته خلال رحلة نزوحهما التي دامت ما يزيد عن ثلاثة أشهر متتالية.
وضاعفت الحرب على قطاع غزة والتي تدخل شهرها السادس مستوى الفقر على نحو غير مسبوق، حيث تشير التقديرات المحلية إلى أن مستوى الفقر يزيد عن 85%، فيما أن نسبة البطالة تجاوزت الـ95%، لاسيما أن الحرب أفقدت مئات الألاف من المواطنين أعمالهم ومصادر رزقهم، بما في ذلك موظفي القطاعين الحكومي والخاص. ناهيك عن حرمان مئات الآلاف من الأسر التي كانت تعتمد على المساعدات الإنسانية، من الحصول عليها.
ويشير المسن مسلم إلى أنه قبل نزوحه عن مسكنه كان يعتمد في غذائه وزوجته على ما كان يملكه من معلبات وبقوليات ولكن مع استمرار الحرب نفذ رصيده من المونة. ومع تضخم الأسعار في السوق المحلية لم يعد لديه القدرة على شراء البقوليات التي كانت تشكل طبقاً رئيسياً على موائد الفقراء.
وتضاعفت الأسعار على نحو غير مسبوق، إذ اشتكى المواطنون من الغلاء الفادح الذي يشهده السوق في مناطق متفرقة من القطاع وذلك بسبب ما اسموه احتكار التجار وغياب الرقابة الحكومية. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد بلغة قيمة الكيلوجرام من الدقيق (40 شيكلا) أكثر من عشرة دولارات، فيما بلغة قيمة كيلو السكر (20 شيكلاً) أي ما يعادل ثماني دولارات، بينما ارتفع كيلو الأرز ثلاثة أضعاف (7 -60 شيكلاً). أما عن الوقود فقد بلغ كيلو غاز الطهي (45 شيكلاً) بعد أن كان ثمن الأسطوانة الواحدة زنة 12 كيلو تصل تكلفتها (70 شيكلاً، )كما ارتفع لتر البنزين إلى نحو (50 شيكلاً) وكذلك السولار.
وبطبيعة الحالة هذا ما يمكن أن يصطلح عليه جنون السوق، لاسيما بعد أن فقدت الأجهزة الشرطية وكذلك دوائر حماية المستهلك التابعة إلى وزارة الاقتصاد الوطني، قدرتها على ضبط الحالة.
وفي ظل العجز عن شراء المواد الغذائية بفعل الغلاء غير المسبوق، اضطرت المواطنة نجاح سلامة (50 عاماً) لبيع قلادة ذهبية كانت تدخرها لليوم الأسود، كما وصفته. وقالت: "لم نمر بأيام سوداء كهذه الأيام التي وصلنا فيها إلى حد الجوع، وتناول طعام الطيور والحيوانات.. لم يكن يخيل لي أن أقوم بطحن مسحوق الذرة وأكله بدلاً من القمح في ظل عدم القدرة على شراءه".
وأشارت السيدة سلامة وهي أم لستة أفراد أكبرهم في أواخر عقده الثاني، إلى أن زوجها متعطل عن العمل منذ وقت طويل، وأبناءها من الذكور جميعهم من العمال وقد تعطلت أعمالهم بفعل الحرب ولم تجد بداً من بيع مصاغها من أجل توفير لقمة العيش لأسرتها.
وقالت: "كنت قد ادخرت تلك القلادة ذات يوم أبيض، عملاً بالمثل القائل ادخر قرشك الأبيض لليوم الأسود، ها وقد جاء اليوم الأسود وبالفعل فعلت بنا الحرب ما لم نكن نتخيله، فقد تعطل أبنائي الثلاثة الذكور عن العمل ولم نتلق أي من المساعدات وأصبحنا نأكل وجبة واحدة خلال اليوم بفعل قلة ذات اليد وشح الطعام".
وتسعد تلك السيدة حالياً، لبيع الأجهزة الكهربائية التي تمتلكها بما فيها الثلاجة من أجل الإنفاق على أسرتها، ما لم يجر إدخال المساعدات إلى محافظة غزة وشمالها، أو إعلان وقف الحرب.
وتشير التقديرات المحلية إلى حرمان المواطنين من دخول المساعدات بالتزامن مع حالة الاحتكار للسلع الرئيسية ومضاعفة أثمانها بما يعجز الناس بمختلف طبقاتهم على اقتناءها، ساعد على تنامي النزعة الإجرامية بين السكان، حيث ازدادت حالات السرقة والسطو على نحو غير مسبوق.
وقال مصدر حكومي، إن عناصر الشرطة يعملون باجتهاد شخصي من أجل محاربة الاسعار الجنونية في السوق المحلية، لكنهم يواجهون تهديد القصف من الطيران، وكذلك يواجهون تحدي غياب المقار الأمنية ومراكز الإيقاف التي جرى تدميرها.
وأضاف المصدر: "لو جرى تحييد المقار الأمنية خلال الحرب على غزة، فعلى الأقل كنا قد تعاملنا بشكل قانوني مع المخالفين للقانون من التجار والمحتكرين وكذلك اللصوص، لكن للأسف أصبحنا نعيش حالة من الفوضى، وبالكاد يمكننا السيطرة على هذه الحالة".