في غزة: جميع الأصوات مفزعة حتى التمتمات

في غزة: جميع الأصوات مفزعة حتى التمتمات

ترقد أمل شحادة (18 عاماً) على سرير داخل بيت عمومتها في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، وهي تعاني من إصابة بشظية طالت كتفها الأيمن بفعل استهداف مسكنها الواقع في مخيم الشاطئ غرب المدينة، وعلى أثره فقدت 16 فرداً من عائلتها من بينهم أبوها وأمها وشقيقها، ولم يعد مسكنها صالحًا للسكن. 

وعلى ضوء تراجع خدمات القطاع الصحي بفعل الحرب على قطاع غزة، لم تستطع الفتاة التي تعتمر قبعة صوفية فوق غطاء الرأس المكوث في المشفى، فقد أوصى الأطباء الذين اطلعوا على حالتها ليلة اليوم الرابع عشر بعد المئة للحرب، بأن ترقد في السرير أطول مدة ممكنة دون حركة حفظاً على حياتها من خطر الشظية التي لم تستقر بعد. وعلى الرغم من ذلك فإن أمل لم تلق بالاً لإصابتها بقدر ما أنها تشكو من الفزع والخوف على مدار الساعة.

تحصل أمل على جرعة مخففة من أقراص المهدئات إلى جانب عقاقير طبية أخرى، من أجل الحصول على قسط من النوم لأن جميع الأصوات مفزعة بالنسبة لها بما في ذلك طرق الأبواب وصوت الرعد. وتحت تأثير الصدمة لم تعد تميز أمل التي التحقت مطلع العام الدراسي 2023 بكلية التجارة بين الأصوات، فجميعها مرعبة حتى التمتمات، كما تقول شقيقتها.

وتضيف: "في بعض الأحيان تتأثر شقيقتي من صوت الحديث الدائر حولها، وتلتفت مسارعة للسؤال عما إذا كان قد مات أحد أخر ممن تبقى من أسرتنا". 

وعلى مدار 154 يوماً لم تتوقف آليات الاحتلال الإسرائيلي وطائراته عن إطلاق القذائف والصواريخ على معظم مناطق قطاع غزة، الأمر الذي خلف دماراً واسعاً في البنى التحتية، وقبل ذلك تسبب بصدمات نفسية يصعب معالجتها لدى معظم سكان القطاع من مختلف الفئات، لاسيما الأطفال والنساء.

بالكاد كانت تصدق الحاجة نعيمة أبو صفية (73 عاماً)، أن الصوت الذي تزامن مع المنخفض الشتوي أواخر يناير والبريق الذي رافقه مبدداً عتمة ليالي الحرب، هو برق رعدي. وتقول إنها لم تكن تستطيع النوم خلال ساعات الليل الماطرة وأن أبناءها لم يفلحوا في إقناعها بأن تلك الأصوات هي أصوات الرعد.

وتعاني الحاجة نعيمة من صدمة أثرت على صحتها النفسية، نتيجة الأصوات المرعبة التي صاحبت عمليات القصف الجوي والبري على مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة معظم أيام الحرب على القطاع. وفي إحدى الغارات على المخيم فقدت زوجها بعد أن رافقته على مدار 57 عاماً، وقد ترك فقدانه أثراً نفسياً عميقاً على حياتها.

وقالت هذه الجدة التي لم تكمل تعليمها الاعدادي، إنها تشعر مع كل غارة تسمعها أنها ستفقد شخصاً جديداً، لذلك باتت تخاف جميع الأصوات حتى لو كانت طرقة باب عابرة. وأشارت إلى أنها عايشت حروباً عديدة لكن ضراوة عمليات القصف الجوي والبري خلال الحرب الأخيرة على القطاع، لم يسبق أن عايشها أحد من قبل، كما تقول.

وإذا كان صوت الغارات مرغبا، فتلاشيها يعتبر كارثة، حسب اعتقاد يسود بين السكان المدنيين، والذين يعتبرون أن اختفاء اصوات طائرات الاستطلاع على وجه الخصوص يعتبر ايعازا ببدء عمليات عسكرية أشد ضراوة أو تمهيدا لعملية قصف.

وتلح الطفلة زينة أحمد في ربيعها الثالث عشر بالسؤال عن مصير طائرة الاستطلاع بعد إعلان هدنة إنسانية، وتقول هل تكفل الهدنة غياب صوت طائرة الاستطلاع التي يصطلح عليها السكان بـ"الزنانة". تشير والدة الطفلة زينة بأن ابنتها لا تكف عن الشكوى من صداع الرأس على أثر أصوات الطائرات، مبينة أن طفلتها باتت تعاني من حالة نفسية سيئة على ضوء فقدانها لصديقتها وتدمير مدرستها. وقالت إن الطفلة زينة تستفيق مرارا خلال ساعات الليل فزعا من الكوابيس، فضلا عن أنها تفضل السهر على النوم خشية من تكرار صوت القصف البري (الحزام الناري) الذي طال حيها في منطقة الفالوجا شمال قطاع غزة. 

 الأثار النفسية السيئة للحرب والتي ألقت بظلالها على معظم سكان القطاع خصوصا النساء والأطفال، تصفها الأخصائية النفسية إيناس الخطيب بأنها كارثية ولا يمكن محوها خلال فترة وجيزة، وإنها ستستغرق الكثير من الوقت لمعالجتها.

وأشارت الأخصائية الخطيب إلى أن الظروف الصعبة التي عايشها سكان القطاع خلال الحرب على غزة، فاقت ظروفهم النفسية والتي كانت متردية من الأصل نتيجة حالتي الحصار والحرب المستمرتين خلال العشرين عاماً الأخيرة.

وأوضحت أن هناك حاجة ماسة للتدخل النفسي لمعالجة الأثار الناجمة عن الحرب، مؤكدة على أن الحل الأمثل الآن للتخفيف من حدة التأثير هو حديث الأشخاص عن مشاعرهم وما يدور في أذهانهم كشكل من أشكال التفريغ النفسي لأصدقائهم أو أباءهم وأمهاتهم.

كما ذكرت الخطيب أنه من الضرورة بمكان ألا يتجاهل السكان مشاعرهم مهما كانت وأن يعبروا عن مخاوفهم وقلقهم إزاء ما مروا به خلال فترة الحرب، وأن عليهم التصالح مع أنفسهم بأن مخاوفهم وقلقهم مشروع مع ضرورة عدم الإفراط في ذلك، وخلق مساحة أمنة للترفيه عن النفس مهما كانت الظروف، بما في ذلك مشاهدة البحر أو تصفح الروايات أو ممارسة الكتابة بصفتها فعل من شكل من أشكال التفريغ النفسي.

وطالبت في الوقت نفسه بضرورة وضع خطة حكومية أو عبر المؤسسات الدولية التي تعنى بقضايا الصحة النفسية، من اجل تقديم الدعم النفسي الكافي لسكان القطاع، على ضوء ما عايشوه من مأسي خلال هذه الحرب.