يتدفق سيل من الزبائن على بسطة قوامها ملابس بالية تعود إلى الشاب محمد فرينة (34 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة. مع ساعات الصباح الأولى ينقل الشاب فرينة (بكجتين) من الملابس البالية عبر عربة كارو متجهاً إلى سوق شعبي فرضته حالة الحرب على قطاع غزة يقع إلى الغرب من المدينة.
بمجرد أن يعرض الشاب فرينة بضاعته يباشر بالنداء على المشترين "أي قطعة بشيكل" (ربع دولار أمريكي)، في إشارة إلى زهد ثمنها، ومع ذلك فإن هناك أناس لا يستطيعون دفع هذه القيمة، حسبما قال.
يعمل فرينة في هذه المهنة هو وأفراد عائلته ويعتمدون عليها منذ سنوات خلت، ويقول إن الحرب قد عززت هذه التجارة ربما لأنها تتناسب إلى حد كبير وأوضاع السكان الذين يكابدون الفقر والجوع نتيجة الحرب.
البائع صاحب البشرة القمحية والابتسامة العريضة لا يكف عن الترحيب بزبائنه وأغلبهم من النساء اللواتي فقدن بيوتهن على أثر عمليات القصف التي أدت إلى تدمير نحو 360 ألف وحدة سكنيةً حتى كتابة هذا التقرير. وأشار إلى أن غالبية الزبائن هم من النازحين والمهجرين الذين دمرت مساكنهم بما فيها من ملابس وفراش وأغطية وغيرها من مقومات الحياة الأساسية.
ولا تخلو أجواء البيع من الاستماع إلى شكوى الزبائن الذين خرج بعضهم من تحت الأنقاض واخرون فقدوا كل ما يملكون من مال تحت وطأة النزوح الذي تعرض له نحو اثنين مليون شخص، ويبدي البائع تعاطفاً معهم حسبما يقول، لكنه في ذات الوقت لا يستطيع خفض قيمة البيع إلى أقل من شيكل، فهي قيمة بالكاد تكفي لشراء حلوى لطفل صغير، كما يقول.
يشير البائع إلى معاناته أيضاً مع الغلاء الفاحش الذي يعيشه السوق المحلي بفعل الحرب وحالة الاحتكار التي تشهدها السلع الأساسية، لذلك قال إنه لا يطمح بتحقيق ربح كبير، لكن على الأقل يحتاج إلى ما يسد به رمق أطفاله الثلاثة.
ولا يكاد يخلو سوق شعبي في أحياء قطاع غزة المتفرقة من متاجر أو بسطات لبيع الملابس المستخدمة، والتي كان يعتمد السكان الفقراء عليها سابقاً، لكنها الآن أصبحت حاجة ماسة لمختلف الفئات، وقد شكلت مصدراً للدخل لأشخاص كثر في ظل انعدام فرص العمل وتضخم نسبتي الفقر والبطالة على نحو غير مسبوق.
عبد الله أبو جابر، يعمل موظفاً في قطاع التعليم وعلى أثر ضيق الحال وتدهور الأوضاع المادية بفعل الحرب، وجد نفسه مضطراً لأن يقيم بسطة لبيع الملابس المستخدمة أمام مسكنه الواقع في مخيم جباليا شمال قطاع غزة.
وأشار أبو جابر في العقد الرابع من العمر إلى أنه في البدء كان يشعر بالكثير من الخجل من بيع الملابس البالية لأنه لم يسبق له أن عمل في هذا الكار، لكنه مرة بعد مرة أصبح ينادي على الزبائن كما يفعل البائعون للدلالة على بضائعهم.
وقال: "في بعض الأحيان تجد نفسك مضطراً للبحث عن مصدر رزق مهما كان الأمر، فعلى الأقل هذه الألبسة البالية تشكل حاجة كبيرة لقطاع كبير من الزبائن في الوقت الراهن وتحت فقط إلى رأس مال بسيط، كما أنها تسد رمق أبنائي وتغنيني عن طلب المساعدة أو الاستدانة من أي أحد".
ولفت إلى أن هناك إقبال كبير ممن تبقى من السكان في شمال قطاع غزة والذين لا يتجاوز عددهم نحو ثلاثمائة ألف نسمة، بفعل الحرب وويلات النزوح، مبيناً أن السكان لم يعد لديهم القدرة على شراء الألبسة الجديدة على قلتها نتيجة لارتفاع أسعارها، بينما ظل سوق البالة يشهد ثباتاً في الأسعار، والتي في مجملها تناسب جميع الفئات في المجتمع.
واعدمت الحرب الطبقية بين سكان القطاع، وأن شئت قل إنها عززت العدالة الاجتماعية في أقبح صورها، فالجميع أصبحوا سواسية في ظل انعدام الغذاء وفرص الدخل والحرمان من تلقي الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، واصبحوا في حاجة ماسة للمساعدات من أجل البقاء على قيد الحياة.
وقالت السيدة أمل مقداد، إن متاجر البالة والبسطات التي تنتشر في الأسواق، شكلت طوق نجاة بالنسبة لها ولأطفالها الأربعة، وبخاصة أنها فقدت مسكنها الواقع في حي الكرامة شمال غرب مدينة غزة ولم تستطع أن تنجو على الأقل بالملابس أو الأغطية.
وأضافت مقداد في الثامنة والعشرين من العمر أن الحرب اندلعت قبل دخول فصل الشتاء، ومع اشتداد البرد أصبحنا بحاجة إلى ملابس ثقيلة ولكن نتيجة لغلاء اسعار الملابس الجديدة لم نتمكن من اقتناءها، لذا وجدت في البالة فرصة للحصول على القليل من الدفء والسترة في نفس الوقت بمقابل ثمن زهيد لا يتجاوز في أسوأ الأحوال خمسة شواكل للقطعة الواحدة .
ويرى الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل أن تردي الأوضاع الاقتصادية وحرمان الآلاف من عمال المياومة من مصدر الدخل، قادهم في نهاية المطاف إلى البحث عن فرص جديدة للدخل من أجل سد رمق أسرهم ومن الواضح أنهم وجدوا في بيع الملابس البالية أيسر الطرق للتكسب اليومي بما يمكن أن يوفر الحد الأدنى من المتطلبات اليومية لكل أسرة.
ويعزو الباحث إسماعيل، لجوء السكان إلى شراء الملابس البالية، إلى حالة الإنهاك المادي التي طالت جميع السكان في ظل الحرب، والتي اعجزتهم عن شراء أكثر السلع ضرورة بما فيها الملابس، لاسيما في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار السلع.
ودعا المختص الاقتصادي إلى ضرورة أن تعمل الأجهزة الحكومية في قطاع غزة على محاربة كافة أشكال الاحتكار التي يشهدها السوق، والتي أدت إلى استنزاف الجيوب الخاوية، والتي شبهها بأنها "حرب على حرب" على المدنيين الذين يعانون من حالة الفقر المدقع.