الدفن الجماعي: مجهولون بلا أضرحة ولا شهادة وفاة 

الدفن الجماعي: مجهولون بلا أضرحة ولا شهادة وفاة 

"إكرام الميت دفنه"، تلك قاعدة شرعية يتعامل على أساسها السكان الفلسطينيون في قطاع غزة والذين يعيشون حرباً ضروس منذ نحو شهرين.  
جمع الناس هنا على الأقل في شمال قطاع غزة ومدينة غزة تحديداً التي لا تزال تسيطر عليها قوات الجيش الإسرائيلي، الجثث من الشوارع، منذ لحظة إعلان التهدئة في الرابع والعشرين من نوفمبر. وغالبيتها مشوهة الملامح ويصعب التعرف على هويتها. 
يقول رجل الأسعاف محمد عبد الله إنه اجتهد وبعض من رفاقه بعد خروج المشافي عن الخدمة في هذه المنطقة، وقاموا بجمع الجثث من الأحياء التي اقتحمها الجيش الإسرائيلي خلال الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر الماضي، وذلك اجتهاد دون تكليف نابع من شرف المهنة وقواعد الدين، كما يقول.
يقود المسعف سيارة بيضاء محطمة النوافذ تحمل شارة هلال أحمر، لكن ذلك لم يشفع لها من أن تصيبها شظايا القذائف التي كانت تطلقها الطائرات الحربية في مختلف أحياء القطاع وعلى وجه الخصوص محافظتي غزة والشمال. يجوب هو وفريق مكون من شخصين الشوارع بحثاً عن الجثث. 
يشير المسعف عبد الله الذي كان يعاين جثة لرجل خلفتها الدبابات التي تراجعت من حي الرمال وسط مدينة غزة إلى شارع الرشيد غرباً، إلى أن السكان في الغالب يستدلون على أماكن وجود الجثث التي خلفتها عمليات القصف الجوي والبري، من رائحة التعفن التي تفوح بين حين وأخر. 
ويقول المسعف، في بعض المناطق كمخيم الشاطئ مثلاً الواقع إلى الغرب من مدينة غزة والذي شهد دماراً واسعاً ولا تزال تسيطر الدبابات الإسرائيلية وقوات الجيش الراجلة على مداخله، فإن السكان الذين عادوا لتفقد مساكنهم بعد النزوح تولوا مسؤولية دفن الجثث المتعفنة والمتحللة لأنه كان يصعب على رجال الإسعاف الدخول إلى تلك المنطقة، وإذا ما دخلوها سيطرون إلى نقل الجثث لمسافات طويلة مشياً على الأقدام بعدما سحقت شوارع المخيم. 
في الغالب دُفن هؤلاء الأشخاص سواء كانوا مقاتلين أو مدنيين دون التعرف على هويتهم. وهم جزء لا يتجزأ من أكثر من 7 ألاف مفقود نتيجة الحرب على القطاع، بينهم 4700 طفل وامرأة، وهي حصيلة غير نهائية اصدرتها وزارة الصحة في غزة. 


وفي الغالب كانت تجلي طواقم الإسعاف الجثث وتنقلها إلى ثلاجات الموتى داخل المشافي، حتى يتم التعرف على هويتها وتوكل مهمة موارتها الثرى إلى ذويها- غير أن خروج مستشفيي الشفاء والإندونيسي وهما مستشفيان رئيسيان لتقديم الخدمة الصحية لحافظتي غزة والشمال، عن الخدمة بفعل عمليات القصف والتوغل داخل المشفى من قبل قوات الجيش- حال دون ذلك وأدى إلى أن تأخذ رجالات الإسعاف على عاتقها مهمة الدفن.  
وخلف محمد المدهون وهو رجل في العقد السادس من العمر، أبنه في حي الصفطاوي شمال غرب مدينة غزة، عندما قرر النزوح إلى جنوب القطاع في الأسبوع الثاني للحرب، وقد انقطع الاتصال بينهما. ويسود لديه اعتقاد بأنه استشهد نتيجة الغارات الجوية التي استهدفت الحي، ويتمنى أن يكون قد تمت موارات جثمانه الثرى، لأن "إكرام الميت دفنه"، كما يقول.
ويسود اعتقاد بين السكان أن كل من قطع الاتصال به أو فقدت أثاره خلال عمليات القصف، أنه قتل. لاسيما في ظل عجز منظمة الصليب الأحمر عن تقديم إجابات شافية حولة مصير الأشخاص الذين فقدت أثارهم. 
وقبل نحو أسبوعين دفنت الطواقم الطبية في مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، أكثر من مئة جثة مجهولة الهوية، ضمن مقبرة جماعية دون استخراج شهادات وفاة. الحال ذاته تكرر داخل مجمع الشفاء الطبي قبل خروجه عن الخدمة، حيث تولت الكوادر الطبية دفن نحو سبعين جثة مجهولة. 
وطبقاً لمنظمة الصليب الأحمر الدولية، لا بد من التعامل مع جثث الأشخاص الذين ماتوا في أثناء نزاع مسلح أو حالات عنف لا ترقى إلى مرتبة النزاع المسلح، أو الذين لقوا حتفهم من جراء كوارث أو في أثناء الهجرة - على نحو يكفل احترامها وصون كرامتها، ويجب العمل على الكشف عن هوية أصحاب الرفات المجهولة. 
ويضيف تقرير صادر عن المنظمة بأن من شأن عدم الاضطلاع بالالتزامات المنصوص عليها في القوانين الدولية والمحلية بشأن التعامل مع الموتى - أو الوفاء بالمعايير الدولية والوطنية ذات الصلة، وعدم تنفيذ السياسات والممارسات اللازمة في هذا الشأن - أن يضاعف أعداد الأشخاص المفقودين، وقد يعطي انطباعًا بعدم احترام الموتى، وينمّ عن تجاهل لحقوق أقاربهم واحتياجاتهم ويسفر عن إطالة أمد معاناتهم.
ويقضي القانون الدولي الإنساني بوجوب التعامل مع رفات من ماتوا في أثناء النزاعات المسلحة بطريقة ملائمة وصون كرامتهم. ويقضي أيضًا بوجوب البحث عن الموتى وجمع جثثهم وإجلائها من أجل المساعدة في ضمان عدم وجود أشخاص في عداد المفقودين.