مئة شيكل للكيلو: البذرة للأغنياء فقط!

مئة شيكل للكيلو: البذرة للأغنياء فقط!

مع ساعات الفجر الأولى، وعلى وقع أصوات القصف المستمرة، يتحرك ظل رأفت بكر على شاطئ غزة. الرجل البالغ من العمر 43 عامًا يدفع قاربه الصغير نحو البحر، مدركًا أن كل إبحار قد يكون الأخير.  

البحر في قطاع غزة لم يعد ملاذًا آمنًا للرزق؛ بل تحوّل إلى مسرحًا للخطر لا يهدأ، منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023. وبعد توقفٍ لشهور اضطر بكر إلى العودة إلى مهنة الصيد، في يونيو 2024، ليوفر ما يُطعم به أطفاله الخمسة.  

يقول بكر: "خسرت كل شيء، المراكب، الشِباك، صديقي الذي كان يرافقني الصيد دومًا. لكنني عدت الآن رغم الخوف والاستهدافات والمطاردة من الاحتلال، أستخدم حسكة مستأجرة وبطارية للإنارة، وأصطاد سمك البذرة وهو النوع الوحيد المتوفر تقريبًا".

قبل الحرب، كان سمك البذرة (أو السردين الصغير) طعام الفقراء بامتياز في غزة، حيث كانت تُباع "البكسة" (15-16 كيلوغرامًا) بـ 3-4 شواكل فقط. أما اليوم، وبعد منع الاحتلال إدخال المواد الغذائية الأساسية لشهور، فقد تجاوز سعر الكيلو 100 شيكل؛ لندرة المعروض التي لا تتجاوز 2% من الكميات السابقة، وفقًا لمختصين.  

رامي الهبيل، صيادٌ في السابعة والأربعين من عمره، لا يخشى البحر وما يُرعبه اليوم ليس الأمواج، بل الحرب التي سلبت منه كل شيء - مراكبه، ومصدر رزقه، وحتى بعض أبناءه.  

يعيل الرجل ثلاثة عشر فردًا من عائلته، بينهم أبناؤه المتزوجون وأحفاده الصغار من خلال عمله على قارب مستأجر "حسكة"، يدفع لمالكه ثلث صيده. فحين يعود بألف شيكل من السمك، لا يحصل إلا على 680 شيكلاً، وهو مبلغٌ لا يكفي لشراء كيس دقيق في غزّة المحاصرة.  

والمفارقة المؤلمة، أن هذه الحسكة المستأجرة التي يعمل عليها الهبيل، كانت تُباع قبل الحرب بألفي شيكل فقط، أما اليوم فتُقدّر قيمتها بـ400 مليون شيكل، بسبب تدمير معظم القوارب في الغارات الإسرائيلية.

يُعدّد الهبيل خسائره التي لا تُحصى، أربعة مراكب (كلٌ بقيمة 200 ألف دولار)، أربع "حسكات" (10 آلاف دولار للواحدة)، ومعدات صيد بقيمة عشرات الآلاف. لكنّ الفاجعة الأكبر كانت قبل أشهر، حين قُتل ابنه وأخوه برصاص البحرية الإسرائيلية على مرمى البصر من شاطئ دير البلح.  

على الرغم من ذلك، يغوص الهبيل كل ليلة في الظلام؛ لأنّ "الجوع أقسى من الرصاص" كما يقول. بينما تزمجر المدافع، يهمس وهو يعدّ شبكته المهترئة: "نصطاد تحت القصف.. الثلث لمالك القارب، والباقي لا يكفي لتوفير طعام الأطفال بضعة أيام".

رغم أن البحر مفتوح أمام الأعين، إلا أنّه مغلق تماماً أمام قوارب الصيادين الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين يواجهون يوميًا تحدّيات أمنيّة واقتصادية في سعيهم وراء لقمة العيش.

على نحوٍ غير بعيد من الهبيل، يستذكر الصياد محمود الهسي، اليوم الذي اصطاد فيه عشرة أطنان من سمك البذرة رفقة أصدقائه، وهو رقم استثنائي مقارنة بالواقع المرير اليومي. فوفقًا للهسي، كان من المفترض أن يصل الإنتاج اليومي في موسم الذروة إلى 100-150 طنًا، لكن الكميات الآن تتراوح بين 700 كيلوغرام و3 أطنان فقط، مما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار السمك.

"موسم البذرة الحقيقي يكون على عمق يتراوح بين 200 إلى 300 متر داخل البحر، لكننا لا نستطيع الاقتراب، فإما نتعرض لإطلاق نار أو للاعتقال"، يوضح الهسي بينما يعدّ شبكته المهترئة.

السبب لا يعود فقط إلى القيود الأمنيّة؛ بل أيضاً إلى نقص المعدات. معظم الصيادين يستخدمون شِباكاً مُعاد تدويرها من حطام الحروب.  

منسق اتحادّ لجان الصيادين، زكريا بكر، يُلخص الواقع"غزة كانت تنتج ألف طن سنوياً من البذرة، أكثر من نصف إنتاجها السمكي" يوضح بكر، "أما الآن، فالأسماك الكبيرة مثل البوري تجاوزت 300 شيكل للكيلو، فلم يبقَ إلا البذرة... عندما نجدها".  

في ظلّ غياب الدعم وحرق المواد الأساسية، يلجأ الصيادون إلى حلول يائسة، ومنها جمع الشِباك من بقايا الغزل المحروق في الحروب. يستخدمون شباكًا خاصة تسمى "عين الغزل" أو "العمية الحمراء" بفتحات ضيقة (3-6 ملم)، لكنّ أكثر من نصف القوارب (60-70 حسكة) تفتقر حتى لهذه الشباك البدائية، إذ يصلّ سعر القطعة منها إلى 5000 شيكل بعد أن كانت تُباع بـ700 شيكل قبل تدمير مخازن الغزل.  

يبدأ عمل الصيادين في غزة بعد الغروب بطريقة "الفلايت" - تجميع أربع شباك قد تجلب 50-60 كيلوغرامًا لكل منها إذا حالفهم الحظ. وتتوفر هذه الأسماك المهاجرة فقط ستة أشهر في السنة (من شباط حتى تشرين الثاني)، ثم تختفي لتعود مجددًا في موسمٍ آخر.

في ظلّ منع التجول البحري، تحوّلت رحلات الصيد إلى مغامرة ليلية. "يبدأ العمل بعد منتصف الليل ببطاريات ضعيفة، بعد أن دمّرت الطائرات الكشافات" يصف بكر. 

"صيد البذرة ممنوع دولياً، ونحن نعلم ذلك، فهي غذاء للأسماك الكبيرة، وتغذي السلسلة البيئية البحرية " يُقرّ بكر، ثم يستدرك قائلًا: "لكننا نختار بين جوع اليوم وجوع الغد". المفارقة أن غزة التي كانت تصدر السمك، صارت تصطاد ما تمنعه القوانين الدولية، فقط لأن مساحة الصيد المسموحة (بضعة أمتار) لا تحوي سوى هذه الأسماك الصغيرة.  

بين صور الشهداء من الصيادين، يختتم بكر حديثه: "كل رحلة صيد هي رهان. إما أن تعود بالسمك لأطفالك، أو لا تعود أبداً". في غزة، حيث اختفت اللحوم والدجاج من الأسواق، لم يعد البحر مصدر رزقٍ بل ساحة موت؛ لكنهم سيستمرون في الإبحار، لأن شباكهم الممزقة هي آخر ما يربطهم بالحياة.

ويُعلّق المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر على هذا التحوّل بالقول: "ما يجري في قطاع الصيد هو انعكاس مصغر للانهيار الاقتصادي العام في غزة. الحرب دمّرت سلاسل الإنتاج والإمداد، ورفعت مستويات البطالة إلى أكثر من 70%، فيما يعاني أكثر من 90% من السكان من انعدام الأمن الغذائي، وفق تقارير برنامج الأغذية العالمي".

ويضيف: "البذرة التي كانت تُباع بأقورات زهيدة، تُباع اليوم بأكثر من 100 شيكل، وهذه قفزة تعكس تضخمًا غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية. الأزمة ليست فقط في نقص السمك، بل في غياب البدائل وارتفاع أسعار الدقيق واللحوم والخضار. حتى القوارب والشباك تضاعفت أسعارها بشكل جنوني، مما جعل العمل في هذا القطاع عبئًا لا مردودًا".

ويختم أبو قمر: "حين يتحوّل صيد السمك من نشاط اقتصادي إلى مغامرة يومية بلا مردود حقيقي، فهذا مؤشر على انهيار الاقتصاد غير الرسمي، وانزلاق المجتمع نحو هشاشة معيشية شديدة، لا يمكن معالجتها دون تدخل دولي ودعم مباشر لقطاعات الإنتاج المحلية".

سعدي الأقرع، صياد ستيني، يقف على شاطئ غزة كل صباح، يُحدق في الأفق الضبابي. "منذ خمسين عاماً وأنا أقاتل البحر، لكن اليوم هو يقاتلني"، يقول. يداه المتشققتان تحكيان قصة مقاومة طويلة. مراكبه احترقت، شباكه تلفت، لكنه ما زال يخرج كل يوم، لأن البحر هو آخر ما تبقى. 

في غزة، حيث اختفت اللحوم من الأسواق وتجاوز سعر كيلو السمك الكبير 300 شيكل، أصبحت البذرة الخيار الأخير كطعامٍ مُغذٍ، بينما لم يعد البحر هنا مصدر رزق، بل سجلًا حيًا لصمودٍ يومي لا يُنسى – ذاكرة مبللة بالملح والدّم.

 

موضوعات ذات صلّة:

كُفتة العدس.. حساء البقاء تحت وطأة الجوع

صيادو غزة: البحر مفتوح على الموت والرماد

في زمن المجاعة: صيد الطيور ضرورة!

اقتصاديات الحصار: حين يُصبح الغلاء أداة تجويع

بالصور "سمك البزرة".. أكلة الغلابا في غزة

صيد سمك "البزرة" مخالفة صارخة للقانون ومقدمة لكارثة بيئية