غزة تُكافح السحايا بأدوية مُعدّمة وغرف عزل مكتظة

غزة تُكافح السحايا بأدوية مُعدّمة وغرف عزل مكتظة

تقف رمزية سكر في غرفة العناية المركزة بمستشفى الرنتيسي غرب مدينة غزة، بجانب سرير طفلها عبد الرحمن (4 سنوات)، المصاب بالتهاب السحايا. تتمتم في أذنه بكلمات رجاء علّها توقظه من غيبوبته المستمرة منذ سبعة وأربعين يومًا. تتحسس جسده الصغير برفق، لتكتشف أن حرارته ما تزال مرتفعة. ينفطر قلبها على طفلها لكن "ما باليد حيلة"، كما تقول.

"طفلي بالأصل مريض استسقاء دماغي، ولكن التهاب السحايا أدخله في غيبوبة، مع ارتفاع في درجات الحرارة وأصبح يصاب بتشنجات عنيفة"، تقول رمزية، بينما كان يحاول أحد أفراد الطاقم الطبي وضع محلول الأكمول في أنبوب وريدي علّه يُخفف من حرارة جسد الطفل التي لا تتوقف عن الارتفاع.

سكر، التي نزحت من حي الشجاعية شرق مدينة غزة إلى وسط المدينة، قبل ثلاثة أشهر، تحمل بين ذراعيها طفلها الآخر، الذي يلحّ عليها لزيارة شقيقه. لكنّها ترفض، خوفًا من أن يلتقط العدوى. "لم أعد أعرف كيف أتحمل أكثر من هذا، هموم النزوح من جهة، ومرض ابني من جهةٍ أخرى"، تقول بصوت منهك.

المشهد الذي تعيشه هذه السيدة ليس معزولاً، ففي أروقة مستشفيات قطاع غزة، يتكرر نفس الكابوس يوميًا: أطفالٌ تهوي أجسادهم أمام التهاب السحايا، بينما تُهزم المستشفيات نفسها أمام نقص الأدوية والمعدات وانعدام الوقود والكهرباء جرّاء الحرب والحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكتوبر 2023.

خلال الأسابيع الأخيرة، تحوّل التهاب السحايا في قطاع غزة من مرض يمكن احتواؤه إلى وباء ينتشر بسرعة مخيفة، مثيرًا قلقًا طبيًا وشعبيًا واسعًا وسط انهيار المنظومة الصحية. ووفقًا لوزارة الصحة، سُجِلت 337 حالة مؤكدة حتى مطلع يوليو، من بينها 259 حالة فيروسية.

وتشير التقديرات إلى أنّ 70% من الإصابات سببها فيروسي، إلا أن بعض الحالات تتطوّر إلى التهاب سحايا بكتيري شديد، يتطلب عناية مركزة يصعب توفيرها في ظل الانقطاع المتكرر للكهرباء، والنقص الحاد في الأدوية والمضادات الحيوية.

هذا العجز في تقديم الرعاية الصحية المناسبة يعكس بوضوح تأثير سياسة الإغلاق والحصار التي تفرضها إسرائيل على قطاع غزة، إذ تمنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية الحيوية، بما فيها المواد المستخدمة لتشغيل أجهزة العناية المركزة. ويرى حقوقيون أنّ هذا يُعدّ انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف التي تحظر حرمان المدنيين من العلاج أثناء النزاعات.

في المقابل، وبينما اكتفت وزارة الصحة بالإعلان عن الأرقام الرسمية، لم تُقدّم تفاصيل حول خطط طوارئ واضحة أو استعدادات لمواجهة انتشار المرض، ما يثير تساؤلات حول جاهزية المنظومة الصحية محليًا.

مدير دائرة الطب الوقائي بوزارة الصحة، أيمن أبو رحمة، رفض الحديث مع مراسلة "آخر قصة" حول تفشي التهاب السحايا في غزة، معللاً ذلك بأنّه غير مخوّل بإعطاء تصريحات إعلامية في هذه المرحلة. وأوضح أن الوزارة لم تتخذ بعد أي إجراءات رسمية ملموسة للتعامل مع الأزمة، وأن كل ما يتم تداوله من معلومات حول المرض هو مجرد إحصاءات رسمية تصدرها الوزارة فقط.

وترى فرق طبية محلية أنّ ظروف الحرب القاسية والإغلاق الإسرائيلي المحكم تضع قيودًا شديدة على إمكانية تنفيذ أي استجابة فعالة، وتحدّ من قدرة القطاع الصحي على احتواء العدوى أو توفير الحدّ الأدنى من الرعاية المطلوبة.

في مستشفى النصر للأطفال غرب مدينة غزة وحده، سُجلت أكثر من 300 حالة إصابة، بينما وثّق مستشفى ناصر في خان يونس جنوب قطاع غزة 40 حالة خلال أربعة أيام فقط. أمّا في مستشفى شهداء الأقصى وسط القطاع، فيُستقبل يوميًا نحو خمسة أطفال تظهر عليهم الأعراض ذاتها: حمى لا تنخفض، قيء مستمر، وبكاء متواصل.

طبيب الأطفال، عدي دبور، يوضح أن التهاب السحايا هو عدوى تُصيب الأغشية المحيطة بالدماغ والنخاع الشوكي، وقد يكون سببه فيروسيًا أو بكتيريًا، يقول: "لو تُرك دون علاج، فهو قاتل". لكنّ العلاج نفسه لم يعد متاحًا بالشكل المطلوب؛ فالمضادات الحيوية اللازمة للحالات البكتيرية النادرة، وسط نقص حادّ، باتت شبه معدومة، في ظلّ نقص حادّ في الأدوية والمعدات الأساسية.

ويضيف دبور أنّ التشخيص يتطلب إجراء فحوصات دقيقة مثل سحب عينات من النخاع الشوكي، وهي إجراءات باتت شبه مستحيلة وسط نقص المعدات وعدم توفر الوقود لتشغيل الأجهزة الطبيّة؛ ما يشير إلى أثر الحصار الإسرائيلي في تعطيل الخدمات الصحية.

تزداد الأزمة سوءًا حين تُضاف إليها أزمة سوء التغذية، إذ يعاني 30-40% من الأطفال دون سن الخامسة من سوء تغذية حاد، بحسب أحدث تقارير الأمم المتحدة، ما يُضعف مناعتهم ويجعلهم أكثر عرضة للعدوى، ويرفع من معدلات الهزال إلى مستويات غير مسبوقة.

هنا يظهر ضعف الاستجابة الإنسانية الدولية، إذ لم تُشهد تحركات عاجلة ومؤثرة من المنظمات الدولية لمواجهة تفشي المرض في ظل هذه الظروف الصعبة، مما يسلط الضوء على البطء والقصور في التدخلات الإنسانية رغم تحذيرات مبكرة.

في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة، تجلس أم ديمة أبو نحل، التي ولدت طفلتها قبل شهر في خضم القصف الذي لا يتوقف بفعل الحرب الإسرائيلية الحالية. "كانت ولادةً في الظلام، بدون كهرباء، بدون أمان، وجاءت الطفلة وقد أصيب بالاختناق الوليدي أو ما يُعرف بنقص الأكسجين على الرئتين.

على إثر ذلك، لم تتوقف زيارات الأم بوليدتها للمستشفى، لكنّ ما حدث قبل أيام، كان الأكثر رعبًا، عندما استيقظت في منتصف الليل، على بكاء الطفلة وحرارتها المرتفعة، التي وصلت إلى أربعين درجة. "ظننت أنها مجرد حمى عابرة، لكنّ الأطباء قالوا إنّها التهاب سحايا"، تروي بينما تحاول تهدئة رضيعتها التي لم يتجاوز وزنها ثلاث كيلوغرامات.

والدة الطفلة ديمة، التي لديها خمسة أطفال آخرين، تقول إنها لم تشعر بهذا العجز من قبل. "حتى الأدوية المسكنة للحرارة نفدت من الصيدليات. كنت أضع كمادات الماء البارد، لكنّ الحرارة لم تنخفض".

الطفلة الآن تحت المراقبة، لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت ستتحسن، خاصةً أن المضادات الحيوية المطلوبة غير متوفرة بالجرعات الكافية، حسبما قالت الأم.

في غرفة أخرى، تحتضن أم عمر شاهين توأميها، أسامة وعبد الله، اللذين لم يتجاوزا الستة أشهر. "في البداية ظننت أن الأمر مجرد نزلة برد"، تقول. لكن حرارتهما ارتفعت إلى أكثر من أربعين درجة، مع إسهال مستمر وانتفاخ في الجسد.

التشخيص الطبيّ للتوأمين جاء متأخرًا: التهاب سحايا. "الآن أحدهما في وضعٍ أسوأ من الآخر"، تقول بينما تحاول إرضاع أحدهما، بينما يُحقن الآخر بالمضادات الحيوية في محاولة لإنقاذه، بينما يواجه الطاقم الطبي تحديات كبيرة في توفير الرعاية المناسبة بسبب شح الموارد.

الطبيب راغب ورش آغا، رئيس قسم الأطفال في مستشفى النصر، يصف الوضع بأنه "كارثي بكل المعايير"، ويقول: "نحن نواجه موجةً من التهاب السحايا في وقتٍ يعاني فيه القطاع الصحي من انهيار كامل".

المشكلة ليست فقط في نقص الأدوية؛ بل في عدم القدرة على عزل المرضى، مما يزيد من انتشار العدوى. وفقًا لآغا، الذي أكد أنّ كل حالة تحتاج إلى عشرة أيام على الأقل من العزل والعلاج المكثف، لكنّ الغرف المخصصة لذلك ممتلئة، والوقود اللازم لتشغيل أجهزة العناية المركزة شبه مُنعدم نتيجة وقف الاحتلال الإسرائيلي إدخال الوقود اللازم لعمل المشافي منذ مارس الماضي. 

يتناقض هذا الواقع مع ما تُشدّد عليه التوصيات الطبية الدولية بضرورة توفير الحماية للأطفال والمدنيين في مناطق الحروب، إذ تنص المادة 24 من اتفاقية حقوق الطفل (1989) على كفالة حق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي ممكن. ومع ذلك، يُجمع حقوقيون على أن الاحتلال الإسرائيلي ينتهك هذه الحقوق في غزة، لا سيما من خلال منعه وصول الأدوية والمُعدّات الطبيّة، وهو ما يُعدّ جريمة حرب بموجب المادتين 16 و17 من اتفاقيات جنيف الدولية.

المشهد الحالي يفرض تساؤلات ملحة حول من يتحمل المسؤولية؛ فبينما يواصل الاحتلال الإسرائيلي ممارساته بما فيها حرمان المدنيين من الدواء والوقود، تغيب خطط الطوارئ الفعالة لدى الجهات الصحية في غزة، وتتأخر استجابات المنظمات الدولية، والنتيجة: أطفالٌ يموتون بصمت، في مشهد يتكرر دون محاسبة حقيقية.

في غزة، لا يقتصر الموت على القصف الإسرائيلي وحده، بل يمتد إلى أمراض ناتجة عن الحرب يمكن علاجها لو توفرت أبسط شروط الحياة. ورغم وضوح النصوص القانونية الدولية، يستمر الحصار، وتستمر الانتهاكات، ويبقى السؤال معلقًا في الهواء: كم طفلًا يجب أن يموت قبل أن يتحرك العالم؟

 

موضوعات ذات صلّة:

زيادة إصابات التهاب السحايا بين أطفال غزة تثير قلق الأطباء

ارتفاع خطير في إصابات أطفال غزة بالتهاب السحايا | سياسة

الخدج: حياة مُعلّقة على جرعة حليب

مع نفاد الحليب: 110 طفل يزور المشفى يومياً

هكذا دق الذعر الشيب في رؤوس الأطفال